يملي هذا السؤال مجموعة من الفرضيات الناجزة كحقائق في أذهان أصحابها، لا يخلو بعضها من اتهام ضمني للمقاومة بالمسؤولية عن
الحرب طالما أنها كانت قادرة على تجنبها، بيد أنه تجدر ومنذ البداية الإشارة إلى أن أصحاب هذا السؤال لا يصدرون من منطلقات واحدة، فبعضهم ينطلق من موقع الحرص على تطوير نضالات شعبنا وتجنيبه آلة الدمار الصهيونية المتوحشة، إلا أن الدوافع النبيلة والنوايا الشريفة لا تجعل من الفرضيات الخاطئة حقائق قاطعة.
الفرضية الأساسية التي ينبني عليها هذا المعمار من المساءلات؛ ترى أن الأصل في حالتنا الفلسطينية تجنب الحروب، بل تجنب
المقاومة المسلحة عمومًا، إذ يمكن إلزام هذه الفرضية بهذه الصورة من مجمل مقولاتها المتسائلة عن جدوى المقاومة وكلفتها الباهظة، خاصة وأن التجربة مع العدو تفيد بأن أي فعل مقاوم مهما كان مدروسًا ومحدودًا من شأنه أن يفتح بوابة للحرب والقتل والدمار، ومن ثم فإن السبيل الوحيد لإبقاء هذه البوابة مغلقة هو بالامتناع عن ممارسة المقاومة، ولأن هذا الاقتراح لا يكفي ولا يبدو وجيهًا ولا يحمل إجابة على سؤال الجدوى فإن البديل المقترح انتفاضة شعبية على غرار الانتفاضة الأولى وبدايات الانتفاضة الثانية تحرج العدو وتحيد قوته تجاه المدنيين وتغني الشعب الفلسطيني عن الاحتياج لداعمين يغطون كلفة المقاومة المسلحة إن من حيث تكلفة أدواتها القتالية والخبرات اللازمة لها، أو من حيث تكلفة ترميم آثارها المدمرة، وأيضًا تحول دون الصورة المضللة التي تعطي انطباعًا بتكافئ القوى بين مقاومة الشعب الخاضع للاحتلال، وجيش الدولة الغاشمة التي تمارس الاحتلال، وعليه فإنه من الطبيعي أن تنشأ فرضية ثانية تتصور إمكان تجنب المقاومة لهذه الحرب، وبالتالي تحميلها ضمنًا المسؤولية عن الحرب مهما قيل عن العدوان الصهيوني الأصلي والسابق على أي فعل مقاوم.
في هذه الحالة، ومن هذا العرض الموجز، ثمة مجموعة من القبليات المهيمنة على عملية التفكير، أو التي تتولد عنها الأفكار التأسيسية، والتي تعيد صياغة المعطيات الواقعية لمطابقتها مع افتراضاتها الأولية، وأهمها تلك النزعة الإنسانية المفرطة التي تجعل من الضحايا والثمن الناجم عن المواجهة مع العدو عاملاً حاسمًا في الموقف من المقاومة، ومن ثم فإما أن تحظى المقاومة بالقدرة على تكليف العدو أثمانًا مكافئة بنسبة ملموسة، أو تمتلك القدرة على تجنيب مدنييها قوة العدو العاتية، أو تكف عن كونها مقاومة ما دامت عاجزة عن تحييد مدنييها وعن إيقاع خسائر ملموسة ومتصاعدة في العدو بما يعوض عن خسائر الشعب، إلا أن الأهم؛ أن هذه النزعة الإنسانية المفرطة تحجز الرؤية عن إدراك أهمية المقاومة في مستويات أخرى، وتحول دون قدرتها على رصد تطور المقاومة وتصاعد أدائها في حدود ظروفها الموضوعية الخاصة.
ومن تلك القبليات أيضًا؛ معركة الرأي العالمي العام، والغربي منه خصوصًا، وهي القبلية التي تتولد منها رؤية بضرورة الحفاظ على صورة الشعب الأعزل المجرد والخاضع لدولة الاحتلال المدججة بجيش طاغي، بما يحافظ على التمايز بين الطرفين، ويمنع تكون الصورة المضللة عن تكافؤ القوى بينهما، وهذه المعركة وإن كانت مهمة كميدان من ميادين المقاومة وخادماتها السياسية والإعلامية، فإن الإشكال في كونها قبلية؛ الأمر الذي يعيد تشكيلها وتشكيل متوالياتها الفكرية على قاعدة الرأي العام المخاطَب، لا على قاعدة الشعب وقضيته ومقاومته، بما ينتهي، ومهما كانت النوايا حسنة، بشعب مدجن وساكن على النمط الذي تفرضه السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ومن ناحية أخرى فإن إقامة الأفكار على قواعد الآخرين، يفقدها التوازن، ما بين صورة الشعب المريد الذي يسعى لامتلاك القدرة والقوة، وبين الشعب المستضعف الخاضع للعدوان الأصلي، فضلاً عن كون ذلك هزيمة مسبقة، وهذا بصرف النظر عن الكثير الذي يمكن قوله حول هذه الموضوعة.
لا يمكن في هذه المقالة مناقشة كل ما أمكن إجماله حول هذا السؤال، فضلاً عن حاجتنا أولاً لمناقشة السؤال الصحيح، وهو "لماذا نقاوم؟"، كي تتحدد المفاهيم وتتضح الظروف والسياقات لتصحيح مسار الأفكار وجعل الحوارات مثمرة فعلاً، إلا أنه يمكن تكثيف القول موجزًا فيما سبق كأساس يمكن البناء عليه لاحقًا.
أهم ما يمكن قوله حول هذه السؤال بمقدماته وفرضياته إضافة إلي المناقشات التي تخللت العرض؛ أنه لا نتيجة لهذا السؤال إلا وقف كل أشكال المقاومة وإدخال الشعب في عملية تدجين متواصلة، لأن أي فعل مقاوم مهما كان بسيطًا، وأي عملية إعداد وتهيئة، وأي رد على اعتداءات العدو كما حصل في الحرب الأخيرة، قد يفتح على شعبنا بوابة الحرب، وإذن فلا سبيل لتجنيب شعبنا ويلات الحرب، وتحييد قوة العدو ومنعها من استهداف المدنيين قدر الإمكان إلا بانتفاء المقاومة أساسًا، لتبقى يد العدو العليا والبادئة مستمرة في القتل ونحن نمتنع عن صدها خوفًا من الحرب، وهو ما يحيل إلى سؤال آخر عن ماهية الحرب، إذا كنا معرضين إلى حرب مستمرة ونمتنع عن مواجهتها خوفًا من الحرب!
هذا المنطق يقضي بمطالبة المقاومة بالشيء ونقيضه، إذ أنه يطالب المقاومة لكي يقبل بها، أن تثبت جدواها إثباتًا ملموسًا ومتصاعدًا، وأن تتمكن في نفس الوقت من تحييد المدنيين، ووجه التناقض في هذا، أن المقاومة كلما أثبتت جدواها، كما في أدائها البري المذهل في معركة (العصف المأكول)، وكلما امتلكت أدوات عسكرية أكثر، فإنها ستبدو من ناحية أقرب إلي صورة الجيش المكافئ للعدو، ومن ناحية ثانية ستدفع العدو لمزيد من استهداف المدنيين بالانتقام والقتل، كما حصل في مجزرة الشجاعية على إثر المقتلة التي اقترفتها كتائب القسام في لواء النخبة "غولاني" في جيش العدو، وذلك كله مرفوض من وجهة النظر التي نناقشها، إضافة إلى غفلة هذه الرؤية عن استحالة قدرة المقاومة على تحييد قوة العدو تجاه المدنيين، خاصة في حالة قطاع
غزة، إذ لا تضاريس طبيعية يمكن أن تنحاز إليها المقاومة، ولا أراضي يمكن أن يلجأ إليها الشعب الأعزل سواء داخل القطاع أو إلى دول مجاورة، ومع جغرافيا ضيقة تحتضن أعلى كثافة سكانية في العالم، والأهم؛ أن هذه المقاومة مدنية في الأساس، نظمها المجتمع وخرجت منه، ولم تنظمها دولة قادرة على حماية مدنييها وفصلهم عن جيشها، وإذن فهذه المقاومة جزء من واجبات المجتمع تجاه نفسه وقضيته، وهو يدفع هذه الأثمان كنتيجة لهذا الواجب.
ثمة نقطة أخيرة؛ وهي أن اقتراح المقاومة المدنية، بمعنى العزلاء من السلاح، لا يحل تناقضات وجهة النظر هذه، لأنها من ناحية لا تقدم المقاومة العزلاء كبديل مرحلي يمليه الظرف، أو كمقاومة تتضافر مع المسلحة، وإنما كبديل مطلق ونهائي، ما يعني إلغاء المقاومة المسلحة كفكر وإعداد، لأن الامتناع عن الممارسة لا يمنع العدو من ممارسة عدوانه، كما فعل في اغتيال الشهيد القائد أحمد الجعبري في العام 2012، ومن ناحية أخرى فإن هذه المقاومة لا تحيد بالضرورة قوة العدو تجاه الشعب كما ثبت في بدايات انتفاضات الأقصى، فضلاً عن تغير شروط الانتفاضة الأولى، وهو ما يعني إخراج المجتمع الغزي من النضال على مثال الانتفاضة الأولى لانتفاء احتكاكه المباشر بالاحتلال، بينما سيضطر في الضفة إلى الزحف إلى مراكز العدو بما سينتهي بمجازر واسعة كما في بدايات الانتفاضة الثانية، وإذن فإن الانتفاضة الأولى ليست مثالاً مجردًا، بل حالة لها شروطها، ومحاولة استنساخها مع تغير شروطها سينتهي إلى نضال فلكلوري داخل المدن الفلسطينية بعيدًا عن الاحتكاك بالعدو، ولأن الهبات الشعبية لها شروطها وسياقاتها التي لا تتولد بقرار حزبي، خاصة ضمن الظرف السياسي الفلسطيني القائم، فإنه لا مناص من مراكمة القوة والخبرة والاستعداد الدائم لمواجهة العدو.