كتب جورج سمعان: الحملة «الكونية» هزمت نوري
المالكي أخيراً. لكن الضربة القاضية جاءت من الخليفة أبو بكر البغدادي. لولا تنظيم «
داعش» لما شهدت المنطقة مثل هذه «الصحوة»
العراقية والإقليمية والدولية. كأن الصراع بين أهل «المشروعين» إياهما توقف فجأة بعد عقد أو أكثر من العبث بشؤون الإقليم وأهله وحروب مكوناته وطوائفه ومذاهبه وعرقياته وحدوده.
ولادة «الدولة الإسلامية» في مساحة واسعة من بلاد الشام لم تكن حدثاً عادياً. لكنها لم تكن ولادة مفاجئة. لم يأتِ جنودها من عدم أو سقطوا فجأة من فضاء خارجي. لم يصطنعهم الأميركيون في أحد مختبرات أفلام هوليوود، كما نسب بعضهم زوراً إلى هيلاري كلينتون. ولم تخرجهم إيران من تحت عباءتها. ولم يطلقهم حلفاؤها في بغداد ودمشق من سجونهما. ولم يذخّرهم أهل الخليج ويخرجوهم من القمقم. هم صنيعة معظم هؤلاء. جاؤوا من كل هذه النواحي التي وفرت لهم الظروف والمقدمات والسياسات... والأرض والحواضن.
لم تكن إزاحة المالكي سهلة. بدت شبه مستحيلة. استغرقت وقتاً طويلاً. بدأت من سنتين وأكثر عندما بدأ حملاته على كل الجبهات، وعلى معظم القوى السياسية في العراق. استلزم إخراج رجل فرد من مكتبه في رئاسة الوزراء حشد الأضداد المتصارعين طاقاتهم وضغوطهم وكل أساليب الترهيب والترغيب! فكم سينتظر أهل الإقليم لإزاحة أبو بكر البغدادي؟ الكرة الصخرة الآن في ملعب حيدر العبادي الذي لاقى اختياره موجة ترحيب واسعة في الداخل والخارج. لكن الترحيب وحده لا يكفي سلاحاً لإسقاط دولة «داعش». لا الولايات المتحدة ولا حتى إيران ولا أي قوة أخرى تبدي حتى الآن استعداداً للموت دفاعاً عن العراقيين والسوريين. على هؤلاء إذاً، يقع عبء المنازلة الكبرى. نجح الرئيس باراك أوباما في تجاهل الحدث العراقي طوال شهرين. وعندما تقدم قرر أن يكون انخراط بلاده محدوداً كما بات معروفاً. وكذلك الأهداف: الدفاع عن الأميركيين المقيمين في أربيل، وحماية إقليم كردستان، ووقف حرب الإبادة التي تحوق بالأقليات. لن يتحرك أبعد من ذلك. ويشاركه الأوروبيون هذا الموقف. أما مسؤولية المجتمع الدولي فعبر عنها مجلس الأمن بقرار تحت البند السابع لقطع مصادر التمويل عن «داعش» و «جبهة النصرة»، ووقف تدفق المتطرفين إلى ساحات الشام. أي أن استخدام القوة وارد، إذا تطور الوضع،
وتعاظمت هواجس الدول الغربية من عودة الإرهابيين الذين التحقوا بساحات القتال إلى أراضيها ومدنها.
أما الآخرون من أهل المنطقة الذين تنفسوا الصعداء مع اختيار رئيس جديد للحكومة في بغداد بعدما هالهم الاجتياح البربري لمناطق شاسعة في العراق وسورية، فلا يملكون ترف الانتظار فيما العالم عازف عن التدخل الميداني المباشر، أقله في المدى المنظور.
عرف الرئيس الأميركي كيف يفرض شروطه على الجميع أمام هول ما حدث. رسم خطاً أحمر هذه المرة. حذر من التقدم نحو كردستان ونفذ وعيده. لم يعد في بغداد شريكاً ضعيفاً لإيران. وتصرفت هذه بتعقل. استجابت لرغبة شركائها من القوى الشيعية. واستجابت أولاً وأخيراً لرغبة المرجع الأعلى في النجف. ثمنت له هبته عندما أطلق النفير لمواجهة الهجمة البربرية. إلى كل ذلك وفرت على نفسها مزيداً من الخسائر سياسياً وميدانياً بسبب عناد زعيم «دولة القانون». وحدت من التصدعات التي أصابت بناءً صرفت عقداً في إنشائه ورعايته. فهل رضخت في ظل كل هذه الاعتبارات، أم أبدت طوعاً استعدادها لشق سياسة مختلفة تترجم رغبتها في الحوار ونهج خط أكثر توازناً وعقلانية؟
الجواب في جعبة الدكتور العبادي. فالرجل ليس بعيداً من طهران. هو زميل سلفه في حزب الدعوة. لكنه أعلن صراحة أنه سينتهج سياسة مختلفة داخلياً وخارجياً. يعرف أسباب الأزمة. ويعرف بدقة مستلزمات هذه السياسة التي يعد بها. وترجمتها ملحة لبدء الحملة المضادة لمواجهة «دولة الخلافة». المطلوب أولاً أن يخرج من «حزب الدعوة» ليقدم نفسه ممثلاً لجميع مواطنيه على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وقواهم السياسية. عليه أن يلاقي سريعاً أهل السّنّة وقواهم السياسية وأبناء العشائر الذين باشروا سريعاً مواجهة الإرهابيين كبادرة حسن نية. وأعد له هؤلاء ورقة شاملة بمطالبهم. وهو يعرفها سلفاً منذ أن رفعها الحراك في المحافظات السنّية قبل سنتين. وفتح باب إلى مصالحة سياسية ووطنية حقيقية، تترجمه حكومة متوازنة لا تقصي أحداً، بل تشرك الجميع في القرارات المصيرية. وترسي توزيعاً عادلاً للوزارات السيادية. وهنا المحك الأساس كأن يحصل أهل الحراك على وزارة الداخلية إذا كان التحالف الشيعي لن يتخلى عن الدفاع والأجهزة الأخرى. وهنا، لا بد من إعادة بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية على أسس وطنية لا فئوية. أي لا يمكن تحويل الميليشيات التي استنهضها المالكي وغيره جيشاً بديلاً من الجيش الذي انهار وتقهقر أمام «داعش». ولا بد أيضاً من إعادة النظر في الدستور، خصوصاً قانون «اجتثاث البعث».
ولعل من مستلزمات «السياسة المختلفة» قيام لجنة تحقيق لفحص الأداء السياسي والعسكري وتحديد المسؤوليات عن الإخفاقات أمام تحدي «داعش» لأخذ الدروس والعبر ومحاسبة المسؤولين بدل الاكتفاء بالإشادة بمكرمة السيد المالكي وتنازله عن المطالبة بالعرش وما جرت على العراقيين من ويلات! فهل تقدم الحكومة المنتظرة على خطوة جريئة في هذا المجال لعلها تشجع اللبنانيين الذين يحتاجون أيضاً إلى مثل هذه اللجنة لفحص الأداء السياسي والعسكري بعد الامتحان «الداعشي» في عرسال. من بدهيات الواجب الوطني، خصوصاً في هذه الظروف، الوقوف إلى جانب المؤسسة العسكرية. لكن هذا الموقف يجب ألا يغيب السؤال عن نتائج ما حصل في عرسال. يتذكر اللبنانيون هذه الأيام نتائج «لجنة فينو غراد» الإسرائيلية بعد حرب تموز (يوليو) 2006، في ظل الجدل الدائر في تل أبيب عن لجنة مماثلة لفحص ما جرى ويجري في الحرب على قطاع غزة. ألا يستحق الحدثان الموصلي والعرسالي لجنة فحصٍ وتقصٍّ؟
التوافق الداخلي العراقي خطوة أساسية بالطبع، لكنها لن تكون كافية. لا بد من مواكبة إقليمية، وبالتحديد عربية - إيرانية - تركية. لن يتدخل مجلس الأمن غداً. ولن تنزلق الإدارة الأميركية، خصوصاً إلى مسرح العمليات بقوات على الأرض. ستترك أمر معالجة الأزمة للقوى الإقليمية الكبرى. هذا الموقف يتماشى مع السياسة الخارجية التي نهجها الرئيس أوباما منذ دخوله البيت الأبيض. أي أن يستعين بمثل هذه القوى لمواجهة أزماتها. وعزز هذه السياسة بتحول استراتيجي أعلنه في 2009. وأكده وزير خارجيته جون كيري في ختام جولته الأخيرة على آسيا. كرر لمن لم يقتنع بعد في الشرق الأوسط: «أن الولايات المتحدة بلد ينتمي إلى آسيا - المحيط الهادئ... نعلم أن أمن أميركا وازدهارها مرتبطان بالمنطقة ارتباطاً وثيقاً أكثر من أي يوم مضى». طوت واشنطن صفحة استراتيجية قديمة في المنطقة تماهت مع أولويات وسياسات كثير من الحكومات والقوى العربية. وليس انخراطها في حوار مع طهران سوى أحد أبرز تجليات هذا التحول. وهو ما أثار ويثير حفيظة حلفاء وشركاء ويفاقم الصراعات الإقليمية.
وآخر تجليات هذا التحول الصمتُ، بل «الحيادُ» الذي لزمته إدارة أوباما وهي تراقب الزلزال الموصلي وتمدد «الدولة الإسلامية» من الحدود مع إيران إلى الحدود مع تركيا عبر سورية، وحتى قلب عرسال اللبنانية. ودفعت بذلك الآخرين إلى إعادة النظر في حساباتهم واستراتيجياتهم. لا يمكنها أن تخوض حرباً واسعة على «داعش» في العراق وتتجاهل وجود التنظيم مع «جبهة النصرة» في سورية. سيكون عليها أن توسع حملتها إلى هذا البلد حيث أراضٍ واسعة تشكل جزءاً من دولة «الخليفة أبو بكر البغدادي». لكنها تدرك أن عناصر الأزمة في دمشق تختلف عنها في بغداد، وعناصر التسوية مختلفة تالياً. ومثلما تصرفت حيال الحدث الموصلي ودفعت أهل المنطقة والمجتمع الدولي إلى المشاركة فعلياً في مواجهة الإرهاب «الداعشي» في العراق، ستدفع كل هؤلاء إلى إكمال المهمة بشقها السوري. وهنا لا مفر ولا مناص أمامهم جميعاً من إعادة النظر في سياساتهم حيال الأزمة السورية. وإذا كان المالكي الضحية الأولى في الساحة العراقية، لئلا نتحدث عن التحولات المتوقعة وتبدل السياسات والمواقف، من هي الضحية الثانية في الساحة السورية؟ إلا إذا كان ما يصح في العراق لا يصح في غيره، أو أن الحرب على «داعش» ستقف عند حدود كردستان أو حدود العراق من دون غيره.
إن تخلي طهران عن المالكي مؤشر إلى إعادة تموضع. وفي السياق نفسه يمكن إدراج الموقف العنيف الذي شنه الرئيس حسن روحاني قبل أيام على خصومه في تيار المتشددين. استخدم خطاباً «نجادياً» غير مألوف. وصفهم بالأغبياء وذكرهم بأن الشعب الإيراني مل سياسة التطرف. ومؤشر آخر إلى اندفاع الرياض في خطوات عملية واسعة لمواجهة الإرهاب. ثم ترحيبها بالدكتور العبادي. إنها طليعة رسائل متبادلة على طريق بناء الثقة. وما لم تنتهِ إلى حوار بناء سيكون من الصعب تقويض «الدولة الإسلامية». أن تلتقي مصالح اللاعبين الإقليميين على مواجهة عدو مشترك قد يكون عاملاً مساعداً لحكومة بغداد لمواجهة «داعش». لكن هذا التلاقي لن يكون كافياً. التنظيم سيبقى ما دامت هناك حواضن في كل أرجاء الإقليم. تحتم المواجهة الشاملة للإرهاب تحولاً جذرياً في كل السياسات التي أدت إلى نشوء «داعش» و «النصرة». ولا شك في أن تسوية الأزمة في العراق سيؤشر إلى بداية انفراج إقليمي، مثلما يؤشر تقسيم بلاد الرافدين إلى انطلاق قطار التقسيم في كل المنطقة.
(الحياة اللندنية)