أثبتت المقاومة في غزة، وتحديدًا كتائب القسام، في معركة (العصف المأكول) أن الاعتماد على النفس المنبثق من الإيمان بالمقاومة والمرتكز إلى إرادة صلبة؛ لا يصنع قدرة الثبات على المواقف وحسب، ولكنه يطور حتى في الأداء القتالي ويراكم في قدرات المقاومة العملية، لأن الإيمان الصادق لا بد وأن يتحول إلى إرادة معاندة للواقع، وبعد أن تكشفت بعض تجليات هذه المعاندة، فإنها بدورها أثبتت من الجانب الآخر أن إيمان "حماس" بالمقاومة صادق إلى الحد الذي حطمت فيه صلابة الواقع وانغلاقه في وجه مقاومتها.
من تجليات هذه المعاندة التي يجدر ذكرها والافتخار بها والتطوير عليها والاستفادة منها: الأنفاق باستخداماتها المتعددة من التهريب والتخزين والاستحكام والكمون والتنقل والتمويه والإطلاق، والتصنيع المحلي للصواريخ والطائرات بدون طيار والعبوات والقنابل اليدوية وبعض القاذفات والبنادق، وتنويع مصادر السلاح.
تمكنت "حماس" بهده الإنجازات من تهشيم الواقع واختراقه في مجالات متعددة، فقد طوعت البيئة الجغرافية الفقيرة إلى العناصر الداعمة، وعززتها بعناصر جديدة شكلت عبئًا إستراتيجيًا على العدو إن من الناحية الاستخباراتية أو من الناحية القتالية، كما تمكنت من تجاوز الحصار وبعد خطوط الإمداد بالتصنيع الذاتي، ولم تركن إلى مصدر واحد للتسليح، وبحثت باستمرار عن مصادر إضافية أخرى لإثراء مخزونها وتنويع أدواتها والتخلص من إشكالات الارتهان إلى مصدر واحد والمخاطر المحتملة لهذا الارتهان.
وحتمًا؛ فإن هذه القدرات لم تكن قفزة في الفراغ، ولا ناشئة عن عدم، ولا قائمة على محض الاعتماد على النفس، فإن الحركة وكما تعلمت من حروبها ومعاركها مع العدو، وأملت عليها الحاجة اكتشاف الثغرات في الواقع الصلب، فإنها بنت أيضًا على ما تحصلته من داعميها وحلفائها خلال مسيرتها الطويلة، وهو الأمر الذي لا تنكره الحركة.
بيد أن ثمة إصرارًا، ومنذ بداية الحرب، من جانب بعض المرتبطين بالمحور الإيراني والمتحاملين على الحركة بسبب موقفها المتمايز من الموضوع السوري؛ على إنكار جانب الاعتماد على النفس، وردّ هذا الأداء القتالي الرفيع بكل ما فيه إلى دعم المحور الإيراني حصرًا، بالرغم من انقطاع هذا الدعم عن "حماس" منذ العام 2012 على الأقل، وتصريح بشار الأسد الصريح في خطابه الذي ألقاه في مفتتح دورته الرئاسية الجديدة قاصدًا "حماس" حينما تحدث عن الذين "لا يستحقون الدعم من ناكري الجميل الذين يلبسون قناع المقاومة وفق مصالحهم لتحسين صورتهم أو تثبيت سلطتهم"!
أسباب هذا الإنكار مركبة، فـ "حماس" وإن لم تكن تقاتل وحدها، وإن كان دعم المحور الإيراني مستمرًا لفصائل أخرى، فإنها وحينما تشكل البنية الأساسية للمقاومة في غزة والفاعل الأكبر فيها تدحض الدعاية التي تحتكر المقاومة في المحور الإيراني وتربطها قصرًا بالموقف من النظام السوري وتوظفها في سياسات لا تبعد في بعض أحوالها أن تكون معادية للمقاومة ذاتها، كالموقف الانتهازي من نظام عبد الفتاح السيسي والذي لا يخلو في بعض دوافعه من مقاصد النكاية بالإخوان المسلمين.
ولا يقل عن ذلك أهمية؛ أن قتال "حماس" هذه المرة وهي تقف بمنأى عن هذا المحور، يعيد رسم صورة المقاومة على الوجه الصحيح، بعد أن تبين أن المقاومة ليست كنيسة يمنح فيها البابا ويحرم، بل هي فكرة وممارسة لا ترتبط بالضرورة بمحور أو بموقف من نظام معين. وتهشيم هذه الصورة، وإن لصالح الحقيقة والمقاومة، يضرب الأساس الذي تنهض عليه دعاية المحور في تسويق سياساته وتشويه خصومه وتبييض مواقفه المتعارضة مع المبادئ التي يدعي تجسيدها.
ولأن المقاومة بحسب الصورة التي اصطنعها المحور للدعاية ثم آمن بها؛ تتجسد في حزب الله حصرًا، وما عدا ذلك من مقاومين خاضع لـ "صكوك بابا كنيسة المقاومة" ومعرض للحرمان في أي لحظة، وإن لأسباب لا علاقة لها بالمقاومة، فإنه يعزّ على موالي المحور تصور إمكان للمقاومة على نمط مختلف عن حزب الله الذي ارتبط عضويًا ووجوديًا بإيران، بل لا يملك موالو المحور تصور مقاومة من خارج محورهم أساسًا، وإلا ما الذي يدعو لإنكار المصدر الليبي للسلاح؟!
ولأن المقاومة في هذه المعركة بفاعليتها الكبرى مثلتها "حماس"، فإنه ليس من سبيل لتوظيفها لخدمة المحور وضرب خصومه؛ إلا بالحديث عن المنشأ الإيراني السوري لسلاحها، في استخدام انتهازي جديد للمقاومة، لا يكتفي بذلك وإنما يعيد رواية السردية الخاصة بالمحور عن الموضوع السوري واتهام "حماس" بالخيانة وهي تخوض أكبر وأطول المعارك العربية مع العدو الصهيوني!
ولا يخلو هذا الموقف من طرفة؛ حينما تتمسح "كنيسة المقاومة" بسلاح الحركة المتهمة بالتخلي عن المقاومة كي تؤكد هذه "الكنيسة" أنها الأصل الذي يعطي ويمنع!
وعلى أية حال؛ فإن إنكار عامل الاعتماد على النفس في تحقيق بعض إنجازات معركة (العصف المأكول)، وبصرف النظر عن دوافعه، وفضلاً عن كونه يتنكر لحقائق معلومة، فإنه يضرب المقاومة في واحدة من نقاط قوتها، ويسعى ولأسباب انتهازية إلى إخضاع المقاومة في فلسطين للظروف الموضوعية القاسية، ما يجعل المبادئ في هذه الحالة منتفية أو في مرتبة دنيا.
بالتأكيد لا تستطيع المقاومة أن تحرر فلسطين بقدراتها التصنيعية المتواضعة، لكن هذا العامل مهم جدًا لأجل استمرار المقاومة، لا كمواقف مشرفة أو فكرة صامدة فقط، ولكن كممارسة فاعلة أيضًا وعمل مستمر لتجاوز عقبات الواقع، كما أن أحدًا لا ينكر أهمية ما سبق وقدمه المحور الإيراني من دعم للمقاومة في فلسطين واستثمرته لتعزيز قدراتها، ولا أهمية أن يتجدد هذا الدعم على قاعدة دعم المقاومة لا على قاعدة رهن المقاومة، ولكن لا بد من بيان الخطورة في هذا الطرح الدعائي الانتهازي الذي يجرّد المقاومة من واحدة من نقاط قوتها.