اتخذ
الإخوان منذ انقلاب 3 يوليو مسارا ثابتاً لا ردة عنه ولا حيدة، و هو مسار التظاهر اليومي السلمي مع موجات موسمية تصاعدية لا تلبث أن تتلاشى تحت ضغط الروتين وثبات الأوضاع. وهذه السردية مشاهدة لا يمكن الإختلاف عليها أو اعتبارها من قبيل التلفيق والافتراء و إلا كنا نتعالى على الواقع أو نجحده، وبالتالي ونحن أمام هذا المسار لانملك إلا أن نتتبع خطواته بحثا عن مآلاتٍ، كوننا هنا في مقام الرصد والبحث ومحاولة الفهم.
ولعل سؤال الفهم هو السؤال الأضخم الذي مازال يبحث عن إجابات .. فسؤال الصواب والخطأ أصبح محسوما لدى كثيرين تبعا لانتماءاتهم واختياراتهم العقائدية والمرجعية، و أما سؤال "الفهم"-أي ما حقيقة مايجري وما مآلاته- فلا يجزم بجوابه أحد، إلا أننا نحاول تلمسه من خلال تلمس المسارات والمواقف.
"طبيعة الانقلاب - الدولة"
يشكل فهم "الفعل" مقدمة منطقية لفهم "رد الفعل" المناسب، كما أنه يفيد جدا في الإجابة على سؤال ما إذا كان رد الفعل المُتخذ سليما أم لا؟ .. وبمقارنة الفعل برد الفعل يمكن الوصول لنتيجة منطقية جدا وسليمة إذا لم نهمل عوامل التفاعل بينهما.
ومن المتفق عليه أن الانقلاب وفريقه يتولون دفة "الفعل" منذ الثالث من يوليو مرورا بفض رابعة والنهضة وهم الذين وضعوا الخارطة السياسية الحالية وخططوا لها وبالتالي يكون فهمنا لهم ولطبيعتهم أمرا ذا أهمية قصوى لدراسة ما إذا كان الحراك ضدهم يسير في اتجاهه الصحيح، وبدون بذل أي جهد في فهمهم وتحصيل بنك المعلومات حولهم وتجميع الدراسات السياسية عنهم يكون مجرد الحديث عن رد فعل "مغالطة"؛ إذ أن الأمر لن يعدو كونه إنفعالا أو سيرا بالقصور الذاتي.
لنؤصل الأمر إذاً !.. تُشكل العسكرية
المصرية العصب الرئيسي لهذه الدولة فهي تدار عسكريا بالأمر المباشر منذ إنقلاب 23 يوليو على الملك فاروق الأول، وعليه فقد تخللت كل أوردة الدولة ومفاصلها منذ ذلك الحين مرورا بعهد السادات الذي خطت معاهدة السلام.
حينها تحول هذا الجيش لمشروع أمريكا الجديد عبر احتوائه في عملية التصنيع الاستهلاكي وعمليات الشراكة التدريبية ومنذ ذلك الحين والمنحنى يمتلئ من حيث سيطرة الجيش على الدولة ومن حيث أيضا سيطرة واشنطن على الجيش، ولا نريد أن نكثر الحديث في هذا الأمر فقد أصبح معلوما وربما أثار تقرير "د.يزيد الصايغ" عن دولة الضباط الجدل مجددا حولها وكشف جوانبها بتفصيل يمكن الرجوع إليه، وعليه لا يمكن بحال وبناء على ما أسلفنا و ما أحلنا إليه .. لايمكن بحال اعتبار وصول محمد مرسي للرئاسة وقتها حالة سيطرة على السلطة فقد كان قلب الدولة كله بيد العسكرية المصرية ونظيرتها الأمنية .. ولا يمكن بحال اعتبار ماحدث بمصر هو من قبيل "الثورة التي أسقطت نظاما .. ولا يمكن بحال اعتبار أن لمبارك "نظام" بخلاف العسكر ولا اعتبار أن لمرسي نظاما امتلك دولة.
و لهذا التفصيل أهمية من حيث اعتبار أن مسرحية وصول الإسلاميين للسلطة في مصر كانت عملية احتواء مخطط لها وكذلك سقوطهم عملية جاءت بتخطيط وليست محض فشل واجهته ثورة شعبية !، وكذلك الاندماج في هذه اللعبة العبثية كان خطئاً فادحا من الإسلاميين والقناعة التي كانت راسخة بإمكانية امتلاك السلطة كانت محض فهم مغلوط لطبيعة البيئة السياسية وبنية الدولة، ونجم هذا عن الانغماس في الداخل التنظيمي ومشكلاته ومواجهة التحدي الأمني دون محاولة البناء الاستراتيجي وتكوين التصور الكامل لهيكل الدولة التي دخلت في صراع معها منذ عقود، وفجوة الفهم الحقيقي وعدم امتلاك جهاز معلوماتي وبناء معلوماتي قوي وترك الامر للاجتهاد الفردي والمبادرات من أسفل لأعلى هو سبب رئيسي في كل أخطاء الحركة الإسلامية في الفترة الأخيرة .
"الإخوان .. مركزية لا تتجاوزها الطموحات"
تشكل جماعة الإخوان المسلمون العصب الرئيسي للحياة السياسية المصرية بعد الجيش ورأس المال، وتظل هي الحركة الوحيدة أمام السلطة بعد نجاح السادات في وأد بقايا اليسار ونجاح مبارك في سحق الحالة الإسلامية المسلحة في التسعينات، وبالتالي أصبحت أشكال الصراع في مصر حصرا على هذا الثالوث (العسكر - رأس المال - الإخوان) ككيانات كبيرة أما بقية التمظهرات من حراك شبابي وبقايا يسار ونخب وقضاء وشارع فهو يتأرجح بين الصراعات التي يكون محورها هؤلاء وحتى إن بدأت قطاعات ثانوية أي صراع فسرعان ما يُختطف ويوظف من الكبار، وبالتالي لا يمكن في مصر الحديث عن مستقبل للعبة السياسية دون رسم مصالح هذا الثالوث.
وعليه لا يمكن في حالة الصراع الذي نشهده اليوم التعالي على مركزية الإخوان في المشهد، وحقيقة أن استمرارية الصراع من عدمه مرهون جوهريا باستمرارية الانخراط فيه لكل من الاخوان والعسكر، وإن أي لحظة يتم فيها تسوية الصراع ثنائيا سرعان ما تنهي أشكاله وإن راهن البعض على حراك الطلاب والجامعات والعمال وغيرهم، إلا أن كل ذلك سينتهي بمجرد انتهاء المقولات الكبرى للصراع عبر طاولات السياسة وغرفها، وبالتالي فالإخوان يملكون "هارد ديسك" الصراع في مصر بجوار العسكر ولا يمكن تصور تجاوزهم على الأقل في المرحلة الراهنة.
"مآلات"
لفهم مآلات الصراع الحالي بعد القاء الضوء سريعا على طبيعة طرفيه (الاخوان /الدولة العسكرية) يمكن محاكمة حراك عام كامل من الصراع وطبيعته وأيضا يمكن الاستئناس بثلاث سنوات أخرى من المناورات منذ
ثورة يناير، والخلاصة للمُطالع بعين مُدققة أن كلا الطرفين لا يملك إنهاء الطرف الآخر باستخدام أدوات الصراع الحالي، فلا يمكن للعسكر إنهاء وجود الإخوان بمجرد عمليات قمع واسعة لأن هذه ليست وسيلة تطهير جيدة بل هي مجرد عملية إعادة تحجيم تضمن وصول الإخوان للحجم الذي لا يمكن أن يشكل خطرا على السلطة وتبقيه في خانة رد الفعل والمقاومة لا المبادرة وهذا هدف بعينه، لكن سياسة المذابح الواسعة وحدها هي ما يمكن من خلاله اجتثاث فصيل مجتمعي كهذا وقد فشلت بشائرها في رابعة فقد زاد العنف من تماسك تلك الفئة بل وأضاف لها شرائح وحواضن شعبية وان كان قد خصم منها أخرى.
كذلك لا يمكن للإخوان إنهاء تواجد الدولة العسكرية بالمظاهرات وحراك "الضغط"، فهذه دولة متجذرة بشكل كبير، والعسكرية المصرية تمتلك السيطرة والنفوذ داخل بنية الدولة والمجتمع وبالتالي يكون الحل الوحيد لإسقاطها هو بالدخول معها في مواجهة شاملة بأدوات استنزاف حقيقية أو تحييدها مجتمعيا عبر إعادة رسم خريطة الانحيازات الشعبية والمصالح وهذا أمر بعيد المنال على جماعة بطبيعة الإخوان التي لا يمكنها قيادة عملية بهذا الحجم لسببين وهما حجم القمع الدي يفرض عليها التقوقع، وحجم المأساة الداخلية حيث تعجز الجماعة عن تجديد استراتيجيتها واعادة طرح نفسها، حيث أصبح مرادف التجديد هو شرائح العمر وتمكين الشباب !.. ولكن ماذا إذا كان الشباب هم نتاج تكويني لتفكير العجائز؟ في هذه الحالة، فإن صيغة التجديد المكنة هي حقيقية وإنما صيغة احتوائية اضطرارية نتاج العجز في الكوادر القديمة لظروف السجن والهجرة.
وعليه بافتراض جمود مسار الإخوان على ما هو عليه وجمود مسار العسكر على ماهو عليه فإن النتاج التقليدي لمثل تلك الممارسة السياسية تاريخيا هو تسوية ضمنية تقضي باطمئنان العسكر لحجم السلوك الإخواني تحت سقف السلطة، مع تضييق مساحة القمع وليس إيقافها، كذلك لا يمكن للإخوان الاستمرار كثيرا في صراع بهذه المعطيات، واجزم أن قيادات كثيرة لن تجرؤ على بحث تهدئة أو مصالحة حتى يصل الشباب إلى حالة من يأس المسار وجدواه، وحينها يكون طرح التهدئة منطقيا فليس هناك من جديد يمكن تقديمه وسط نزيف الدم و هتافات المحاكم و وخشخشة قيود السجن.
يبقى التعويل الوحيد الذي يرقبه البعض هو حالة فوران شعبي أمام سياسات السلطة الاقتصادية يمكن الاندماج بها وقيادتها، لكن حقيقة الأمر أن هذا لن يحدث إلا بعملية تثوير وطليعة واعية يمكنها قيادة الجماهير وهذه أيضا غير متوفرة في الجماعة بشكلها الحالي ولا حتى في كيانات شبابية غير مكتملة النضوج.
إن المسار والمعركة الوحيدة المتاحة الآن أمام الإخوان المسلمين وتنظيمات الاسلاميين هي عملية إصلاح داخلي حقيقية ليتم فيها صياغة رؤية جديدة وبناء كوادر ومناهج تدريب حقيقية تصنع من سيتولون دفة الصراع قبل أن تصنع الصراع نفسه، ولا يمكن ترك هذا للمبادرات من أسفل لأعلى ولا لمحاضن تربوية عشوائية، بل يجب أن يتم الأمر بشكل مركزي ومركزي جدا، فالصراعات لا تحسم بمجرد الفوضى و إن كانت الفوضى أحد مراحلها !