كتاب عربي 21

تونس ..انقلاب هادئ؟

1300x600
وصف كل نشطاء التيار الثوري تقريبا ما حدث في تونس خلال الأيام الفارطة بأنه انقلاب ناعم على ثورة 17 ديسمبر الخالدة من داخل صناديق الاقتراع هذه المرة لا من خارجها أي من داخل العملية السياسية نفسها. وهو توصيف يرى أن الانقلاب الناعم على الثورة كان مسارا تصاعديا قد بدأ منذ فجر الثورة نفسها.

بدأ الانقلاب عندما لم تستكمل الثورة مسارها الطبيعي بمحاسبة شبكة الاستبداد و"عصابة السُرّاق" فور هروب بن علي وذلك من أجل القصاص لدماء الشهداء ولدموع أمهاتهم وأبناءهم. بدأ الانقلاب عندما أعلن "إعلام العار" الحرب على الثورة وعلى الثوار ببث الإشاعات والفوضى واستفزاز الجماعات المتدينة والتيارات المحافظة من أجل خلق مناخ عام من الخوف والرعب من التغيير والتلويح مبكرا بفزاعة الإرهاب. 

بدأ الانقلاب منذ فشل اعتصام "القصبة ثلاثة" في جويلية 2011 الذي دعا إليه الشباب الثائر حينها من أجل كنس بقايا الطغيان واستئصال ما رسب من أورام الاستبداد ومنها الزعيم الحالي للتجمع الدستوري الديمقراطي الذي طارد المحتجين حينها بعصاه الأمنية الغليظة إلى داخل المساجد متعللا بهيبة الدولة. 

بدأ الانقلاب مع الحرائق الاجتماعية التي أشعلتها القيادات النقابية من أجل دفع الدولة نحو الشلل التام وإفشال المرحلة الانتقالية من داخل النسيج الاجتماعي نفسه. بدأ الانقلاب مع تكالب "نخب العار الوطنية والسياسية"  كلها دون استثناء على السلطة وعلى تقاسم الإرث البائس للطاغية بن علي ليفسحوا المجال شاسعا أمام جلاديهم للتنفس من جديد. بدأ الانقلاب عندما قرر الثنائي الخليجي الراعي للانقلاب في المنطقة العربية إلحاق الثورة التونسية بالوضع الدامي في مصر مع تواطؤ دولي فاضح أمام المجازر الممتدة من القاهرة إلى دمشق.

اليوم لم يبق أمام شبكات "الشُّعب الدستورية" ومخبري بن على إلا بعث الخلايا النائمة للتجمع الدستوري الديمقراطي من أجل تزوير إرادة الفقراء عن طريق المال الفاسد والتلاعب بمحتويات الصناديق في بعض الدوائر التي رصدتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. لا يعني هذا مطلقا أن النظام الاستبدادي لا يملك حاضنة شعبية هامة من البورجوازية الوطنية المتعفنة لتنتخبه بل هو يعني أن حاضنة الاستبداد لا يمكنها أن تبعثه من جديد بهذا الشكل ما لم ينجز إعلام العار الوطني مهمته الرسمية في تزييف وعي الناخبين خاصة من الشيوخ والكهول الذين لا يتقنون تفكيك رسائل التغييب الوطنية.

الانتخابات وقعت على صدى التهديدات الإرهابية وعلى وقع الحرائق الاجتماعية والتلويح بأن البلد على حافة الإفلاس وهو خطاب إعلامي يستهدف لا وعي المواطن البسيط ليستدعي بشكل غير مباشر "عهد الأمن والأمان" زمن النظام الاستبدادي. هو خطاب مفخخ قصف التونسيين مدة ما يزيد عن ثلاث سنوات هي عمر المرحلة الانتقالية وخلَق حالة من الانتظار والتوجس حكَمت في جزء كبير منها شعور الناخبين وهم يتوجهون إلى صناديق الاقتراع.

الفوضى التي نرى في الوطن العربي الذبيح اليوم ليست إلا بديل الدولة العميقة بأذرعها الداخلية والخارجية على ثورة الشباب التي خرجت طالبة الحرية والكرامة فواجهتها أنظمة العصابات العسكرية بآلة الموت الحاصدة التي لا تزال إلى اليوم تدك ببراميلها الطائفية مدارس الأطفال في سوريا فترسم بدمائهم الطاهرة على جدران المدارس إعلان موت الكرامة العربية ونهاية القومجية العربية الدامية.
ما لم يدركه الانقلابيون هو أن حركة الوعي المنجز للتغيرات الاجتماعية هي حركة رأسية الاتجاه لا تقبل النكوص وأن الوعي عبارة عن حركات تراكمية لا تلغي الحركة الواحدة فيه ما قبلها من الحركات. إن ما أنجز لصالح الوعي العربي وما انكشف من زيف المناضلين والمقاومين والممانعين لا يمكن العودة عنه. بل إن ما عُرّي من زيف الايدولوجيا السياسية بمختلف اتجاهاتها الإسلامية والقومية واليسارية والليبرالية مكسب عزيز للعقل السياسي العربي وللوعي الجماعي لا يمكن إنكاره.

قد نتفاءل خيرا بأن هامش الحرية في تونس انجاز لا يمكن العدول عنه وأنه غُنم محصّن بالوعي الشعبي وقد نتفاءل خيرا بأن ما أُنجز راسخ لا يمكن تحويله أو زعزعته. قد نتفاءل بهذا وغيره لكن من خبِر طبائع الاستبداد وجرّب وكلاء الاستعمار وخالط عتاة الاستئصالين وذاق بعضا يسيرا من سياط جلاديهم يعلم أنه لا يؤتمن لهم جانب وأنهم والحريةَ على طرفيْ نقيض خاصة وأن تجفيف الينابيع ومحاربة أركان الهوية العربية الإسلامية رياضة وطنية راسخة في سلوك الطغاة العرب في تونس.

 لكن الثابت الأصيل في فيزياء الثورات هو أنها تطرح دائما أسباب تجدّدها وتحمل أبدا شروط إمكان استنساخ موجاتها في صور أشدّ عنفا من الموجات الأولى يكفي فقط أن تُستهدف مكاسب الحركة الأولى حتى تتحرك في الأعماق إرهاصات الموجة الثانية الأكثر عنفا وارتفاعا لتكتسح كل النتوءات التي لم تبلغها الموجة الأولى.