شهدت
تركيا الأيام القليلة الماضية مجموعة من العمليات "الإرهابية" التي أوقعت عددا من القتلى والجرحى في صفوف الجيش، وهو ما أثار مخاوف على مصير عملية السلام التركية الكردية، في وقت اتهم فيه بعض الكتاب والمحللين الأتراك ضمنيا جماعة فتح الله
غولن والدول الغربية بالمسؤولية عن عودة العنف.
وقتل في هذه العمليات التي شهدتها ولايات الجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية عدد من الجنود، في ظل تضارب بين ما أعلنته القيادة العليا للجيش عن مسؤولية حزب العمال الكردستاني عن هذه العمليات، وبين ما أعلنه حزب العمال الكردستاني عن براءته منها.
وقد كانت أخبار هذه العمليات حدثا يوميا تعوده الأتراك طيلة أكثر من ثلاثة عقود وظنوا أنها ستنتهي مع إعلان حكومة العدالة والتنمية قبل حوالي سنتين عن عقد اتفاق بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني المسلح؛ يقضي بإنهاء المواجهات المسلحة وبانسحاب مقاتلي الحزب من تركيا وفسح المجال للحكومة حتى تقوم بتحقيق "المطالب المشروعة" للمواطنين الأتراك المنتمين للعرق الكردي، وذلك ضمن مشروع موسع وطويل الأمد أطلقت عليه الحكومة تسمية "عملية السلام الداخلي".
وبالتزامن مع اشتداد المواجهات بين مقاتلي تنظيم الدولة والمقاتلين
الأكراد في مدينة عين العرب (
كوباني) السورية ذات الاغلبية الكردية، عاشت تركيا احتجاجات كردية غاضبة تحول بعضها إلى مواجهات مسلحة أدت إلى مقتل عدد من المواطنين الأكراد وغير الأكراد، وتلتها عمليات اغتيال لعدد من الأمنيين والعسكريين، الأمر الذي بات يشكل تهديدا جديا لعملية السلام الداخلي ويضع حكومة أحمد داوود أوغلو أمام تحد صعب يتمثل في منع سقوط عملية السلام الداخلي، إضافة لتحد آخر أكثر صعوبة يتمثل بالقضاء على العمليات الإرهابية الصادرة عن مقاتلين ثبتت تبعيتهم لحزب العمال الكردستاني ولم يثبت بعد إذا كانوا يتحركون حسب أوامر من قياداتهم أو بشكل تلقائي.
محللون يحملون المسؤولية لجماعة فتح الله كولن
رأى بعض المحللين دورا لجماعة فتح الله غولن في محاولات تعطيل عملية السلام بين الحكومة التركية والأكراد، بسبب خصومتهم وعدائهم الشديد لحكومة العدالة والتنمية.
وفي هذا الإطار، قال الكاتب التركي "صالح تونا" في مقال بصحيفة يني شفق تحت عنوان "وخرج حزب العمال الكردستاني عن السيطرة": "كلما استمر القتال، ستستمر الجنائز وستستمر الحزائن"، مشيرا إلى سعي بعض القوى الداخلية المعادية للحكومة - وعلى رأسها تنظيم جماعة فتح الله كولن - إلى إرجاع البلاد إلى سنوات الحرب بين الجيش وحزب العمال الكردستاني، وإلى "الأوجاع" التي عاشتها تركيا بسبب تلك الحرب طيلة أكثر من 25 سنة.
وسرد صالح تونا سلسلة من "العمليات" التي استهدفت الجماعة من خلالها عملية السلام الداخلي، بدأ من تسريب فحوى المفاوضات التي أجراها المستشار "هاكان فيدان" بصفته مساعدا لوزير الخارجية آنذاك "أحمد داوود أوغلو" مع ممثلي حزب العمال الكردستاني في أوسلو النرويجية، وصولا إلى محاولات الإطاحة بالمستشار "هاكان فيدان" من على رأس جهاز الاستخبارات ومحاولة مقاضاته بتهمة التعامل مع تنظيم إرهابي.
مع العلم أن هاكان فيدان تحمل مسؤولية التفاوض مع حزب العمال الكردستاني منذ كان في مكتب وزير الخارجية ثم من منصبه في مكتب رئيس الوزراء السابق ثم من منصبه الحالي رئيسا لجهاز الاستخبارات التركية، وينسب له الفضل في الوصول إلى الاتفاق المبرم بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني والذي أعلن الحزب بموجبه عن وقف العمليات ضد الجيش وعن سحب مقاتليه من الأراضي التركية.
ومع اتهامه لجماعة فتح الله كولن بالاستثمار في اشعال الغضب الكردي، قال صالح تونا في ختام مقاله: "لقد نجحت جهودهم هذه المرة (أي عادت المواجهة بين الجيش والمقاتلين الأكراد)، وها هي أخبار سقوط الشهداء من الجيش تأتي تباعا.. سأعترف بأني لا أفقه شيئا إن لم يكن هؤلاء السادة بصدد الاحتفال بهذه الأخبار".
كتاب يحملون المسؤولية للغرب
وإضافة للاتهامات الموجهة لجماعة "غولن"، اتجه بعض الكتاب الأتراك لتحميل الدول الغربية مسؤولية تدهور الأوضاع، ومنهم الكاتب في صحيفة أكشام التركية "وداد بيلغين"، كتب مقالا استعرض فيه ما اعتبره محاولات داخلية وخارجية لإفشال عمليات السلام. وتحدث بيلغين في مقاله عن عدم رغبة القوى الغربية في نجاح عملية السلام، وعن تضارب مصالح هذه القوى مع النتائج المتوقعة من هذه العملية من استقرار وتماسك داخل المجتمع التركي؛ ما سينعكس إيجابيا على النظام السياسي التركي.
وقال "وداد بيلغين": "الغرب يريد اليوم تطبيق مسألة انفصال الأكراد عن الدولة التركية، هم يريدون اليوم حل المشكلة الكردية من خلال تمزيق تركيا، ويريدون أن يحصل الأكراد على مستوى مرموق في القانون التركي يكفل لهم حق إدارة شؤونهم في المناطق التي يتواجدون فيها، لينتقل هذا المستوى فيما بعد لمرحلة الحكم ذاتي، ثم في النهاية إلى طلب الاستقلال السياسي والجغرافي عن الدولة التركية".
إلى أين؟
يذكر أن الرئيس التركي الحالي "رجب طيب
أردوغان" وقبل أن يستقيل من منصبه رئيسا للحكومة ورئيسا لحزب العدالة والتنمية، اشترط أن يتمسك من سيخلفه بعملية السلام الداخلي، كما أكد مرارا أنه لا حل للمسألة الكردية سوى التفاوض والسلام، وأن الحل العسكري لا يزيد الأكراد سوى عداء للدولة وتمسكا بالعمل المسلح ورغبة في الانفصال.
وبما أن أحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء الحالي، كان من أكبر المنظرين لعملية السلام الداخلي، فإن من المستبعد جدا أن تتخلى حكومته عن هذا المشروع، ورغم اعترافها بتجاوز الطرف الآخر - حزب العمال الكردستاني- لبنود الاتفاق، ستستمر الحكومة التركية في رفضها للحل العسكري، وهو ما أكده "بولنت آرنتش" نائب رئيس الوزراء مؤخرا بقوله: "إننا لا نعطي ردود أفعال عاطفية أمام هذه الأحداث، ويجب على الكل أن يتعامل بوجدان وأخلاق، وأن يتصرف بصدق، ونحن مستمرون في التحرك بصبر وإصرار في هذا المجال، ولن نكون الطرف الذي سينهي عملية السلام الداخلي".