الأسهل ـ وهي أيضاً صيغة واجبة أخلاقياً، وقد تفلح في طرد بعض الالتباس المحتمل ـ أن يترحم المرء على ضحايا العملية
الإرهابية البشعة التي استهدفت مقرّ أسبوعية «
شارلي إيبدو»، في باريس؛ وأن يتعاطف مع ذويهم وأصدقائهم، ويأسف لخسران مواقفهم النقدية الضرورية إزاء مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية، ويفتقد رسوماتهم اللاذعة بصفة خاصة، ثمّ يقصد «ساحة الجمهورية»، فيعتصم مع الآلاف، رافعاً لافتة «أنا شارلي إيبدو»، لكي يدين هذه العملية بوضوح أقصى، ومعها الإرهاب عامة، أياً كانت مسوغاته وأهدافه وطرائقه وأدواته، وأن يتابع حال التضامن هذه، حتى إذا أُسمع ـ بسبب من لونه الأسمر ربما، هنا أيضاً في باريس، كما في بيروت ـ عبارة عنصرية ضدّ المسلمين هنا، وأخرى كارهة للعرب هناك…
هي الصيغة الأسهل، إذاً، ولكن تلك التي لا يتوجب أن تطمس واجبات أخرى أصعب وأعقد، ولا تقلّ ضرورة أخلاقية أيضاً: كأن يبدأ المرء ذاته، كما فعلت شخصياً في الواقع، من استذكار بسيط مفاده أنّ أصابع فنان الكاريكاتور السوري علي فرزات كُسرت بأيدي أزلام بشار الأسد، في قلب دمشق، وأنّ المثقف المصري النقدي والتنويري فرج فودة اغتيل في القاهرة، حين كانت أجهزة حسني مبارك الأمنية في ذرة سطوتها، وأنّ النظامَين السوري والمصري حظيا برعايةٍ وحمايةٍ من الغرب ذاته، الذي يدفع مواطنوه، اليوم، أثماناً باهظة جراء سياسات حكومية وأمنية هوجاء، شعارها «الشيطان الذي تعرفه خير وأبقى».
هذا هامش أوّل للتذكير بأننا نحن الشعوب «العربية/ المسلمة»، وفق التصنيف الأحدث المريح للضمير الغربي، ضحايا طرازَي الإرهاب معاً، وعلى قدم المساواة: إرهاب الدولة البربرية المستبدة، وإرهاب الجماعات الإسلامية الظلامية المتشددة؛ ولذلك فإننا لسنا أوّل المحتاجين إلى وعّاظ يلقنوننا دروساً «ثقافية» حول منابع الإرهاب، لا تكترث بأسبابه العميقة أو الأعمق، السياسية والسوسيولوجية والاقتصادية والحضارية والتاريخية… بل تبدأ من توصيف الإسلام ثقافةً قبل أن يكون ديانة، في باب العقيدة التي تحتضن الإرهاب على نحو جنيني وتربوي، وِلادي وجبري ومطلق، يجعل المسلم مشروع إرهابي منذ أن يطلق صرخته الأولى في هذا العالم.
هامش ثانٍ، متفرّع عن الأوّل، يشير إلى أننا لا نكفّ عن تلقّي الدروس «الثقافية» إياها، سواء وقعت وتكاثرت، أو انحسرت وغابت، العمليات الإرهابية المختلفة، التي يحدث بالفعل أن ينتمي منفذوها إلى أنماط شتى من التطرّف الإسلامي، أو إذا عزّت الأسباب في الحالتين، الاتكاء على المتخيَّل لاستيلاد واقع كابوسي. قبل الهجوم الوحشي على مقرّ «شارلي إيبدو»، بساعات قلائل، كانت وسائل الإعلام الفرنسية، في غالبيتها الساحقة، منشغلة بالعمل الجديد للروائي الفرنسي ميشيل ويلبيك، الذي يتخيّل أنّ سنة 2022 سوف تشهد اضطرار
فرنسا إلى انتخاب رئيس مسلم، اسمه محمد بن عباس (معتدل وليس متطرفاً ألبتة، ولكنه سيجعل السوربون جامعة قرآنية، ويمنع النساء من العمل، ويُلزم الطالبات بالحجاب…)؛ وذلك لأنّ الأحزاب الجمهورية، على اليمين واليسار والوسط، ستكون مرغمة على دعمه تفادياً لفوز خصمه مارين لوبين، زعيمة حزب «الجبهة الوطنية» اليميني المتطرف.
وللمرء أن يتخيّل ما أثارته الرواية، حتى قبل توزيعها، من أصناف الذعر والخواف والتطير، رغم أنّ النصّ عمل تخييلي في نهاية المطاف، وكيف تسابقت عشرات الأقنية على استضافة ويلبيك (لم يكن هذا، على أيّ نحو، حظّ باتريك موديانو، الفرنسي الفائز بنوبل الآداب لهذا العام)، فانشغل الإعلاميون، في أعمدة الصحف وشاشات التلفزة وأمواج الأثير، باحتمالات ـ ثمّ بالطبع عواقب ـ تحقق هذا السيناريو على أرض الواقع. وحين كان صحفي حكيم، وجسور شجاع، مثل إدفي بلينيل، رئيس تحرير موقع «ميديابار» ومؤلف كتاب «من أجل المسلمين»، ينبّه صحفياً موتوراً وسطحياً، مثل باتريك كوهين، من مغبة تحويل رواية إلى حدث سياسي، خلال برنامج حواري في ستوديو القناة الخامسة الحكومية، كانت رصاصات الإرهاب تنتظر الإطلاق ضدّ صحفيي «شارلي إيبدو»، كأنما توجّب على الإرهابييَن أن يرددا الأصداء الأخرى، عبر «الميكروفون» الوحيد الذي بحوزتهما: الكلاشينكوف!
وفي تلمّس هامش ثالث، تلك «البنية الشعورية»، لكي نستعير تعبير الناقد الإنكليزي الكبير رايموند وليامز، التي ولدت وتنامت واستقرت في نفوس شرائح واسعة من فرنسيي هذه الأيام، حتى صارت تراثاً مكيناً، مفاده أنّ غالبية مشكلات فرنسا مردّها أقوام المهاجرين، ومَن يتحدّث عن هؤلاء فإنه يعني العرب والمسلمين في المقام الأوّل، أو الحصري ربما! وهكذا، لم تنتقل فرنسا إلى دراما ويلبيك وقصر الإليزيه المتأسلم المحجب، إلا بعد أن لاكت وعلكت، واجترت حتى التخمة القصوى ـ عبر وسائل الإعلام ذاتها، ثمّ في الجوار البلحيكي والسويسري أيضاً، طيلة ثلاثة أشهرـ كتاب إريك زيمور» «الانتحار الفرنسي»، الذي ينتهي، عملياً، إلى أنّ طرد ملايين المهاجرين (العرب تحديداً، ثمّ السود، وفق تصنيفات سابقة وصريحة للمؤلف ذاته)، هو أحد الحلول الواجبة لإنقاذ فرنسا من حافة انتحار معلَن.
كتاب زيمور شدّ بعض الأوتار الأخرى في قوس «البنية الشعورية» المضطربة إياها، فخاض في مسائل الذكورة والنسوية، وانحلال الجمهورية بسبب تساهلها مع «ثقافات» أخرى، (والمقصود، دائماً هو الإسلام، ثمّ -استطراداً- ملايين المسلمين العاملين في الصناعة والبناء والبقالة…)، ذاك هو الهامش الرابع، غير الجديد في الواقع، ولكن المتجدد على نحو أقرب إلى التفجر؛ ومضمونه القلق حول الهوية، والذعر من مستقبل غامض أو شبه غامض، والحذر من متغيرات عاتية تأخذ الفرنسي على حين غرّة، وتضعه بين مطرقة الليبرالية البربرية وسندان الليبرالية التكنوقراطية، على حدّ تعبير بيير بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي الكبير الراحل. ومنذ أحداث عام 1968 الطلابية التي أسقطت شارل دوغول عن عرش مكين، تبحث فرنسا ـ بصمت مخدَّر تارة، وبصخب مؤلم طوراً ـ عن هوية فكرية وثقافية واجتماعية لا تتأرجح في مهبّ الرياح.
الهامش الخامس يخصّ حرّية التعبير، التي انتهكت على النحو الأبشع حين سعى الإرهابيان إلى إخراس الرأي، وكسر الريشة، عن طريق إراقة الدماء؛ أياً كان اتفاق المرء أو اختلافه مع رأي هذا أو ذاك من الصحفيين القتلى، خاصة في البُعد النقدي الساخر من أبعاد التعبير عن الرأي. فإذا كان من حقّ رسّامي «شارلي إيبدو» أن ينتقدوا الأديان والعقائد والرموز، فإنّ هذا الحقّ لا يجوز أن يتجزأ؛ كأن يُفصل من الأسبوعية ذاتها رسام شهير، وكبير، هو موريس سينيه، لمجرد أنّ رئيس التحرير قرّر أنّ زميله معاد للسامية. الرسام نفسه كان ضحية واحدة من أبشع وقائع الرقابة في التاريخ الإنساني، أي إعدام الكتاب، عن طريق إحراق كامل النسخ المطبوعة. ففي سنة 1966، أحرقت دار نشر «بنغوين» البريطانية، بقرار فردي من مؤسسها ألن لين، 50 ألف نسخة من كتاب سينيه «مجزرة»؛ لأنه اعتُبر إهانة لمشاعر المسيحيين، رغم أنه كان ترجمة عن الأصل الفرنسي.
هذه، مع الاعتذار من الشاعر السوري الكبير الراحل نزار قباني، هوامش على الدفتر الباطني للإرهاب الإسلامي في فرنسا، إذا وضع المرء جانباً إرهاب الدولة كما مارسته أنظمة الاستبداد العربية. وثمة ما يستدعي تقليب المزيد من هوامش هذا الدفتر، لعلّ انكشاف ما خفي طيّ صفحاته، أو أُخفي عن سابق قصد، يفضي بالمرء من المهمة السهلة على المهامّ الأصعب، وينقل حقائق الاعتلال من العتمة إلى رابعة النهار.
(نقلاً عن صحيفة القدس العربي)