يحسن مرّات، أو يجب دائماً، أن يحافظ المتعاملون في السياسة، ولا سيما، من يصنّفون أنفسهم، بالمبدئيين والمناضلين، وأصحاب
المواقف، على تذكر مواقفهم وسياساتهم، بين مرحلة وأخرى، إزاء القضية الواحدة. وذلك لضبط التماسك، أو عدم الدخول في لعبة تغيير المواقف من القضية الواحدة، ثم هنالك بسبب أن يكون المرء عادلاً وغير ظالم لنفسه والآخرين.
ولهذا يُخصّ هنا المبدئيون والمناضلون وأصحاب الثوابت بين عموم المتعاملين بالشأن السياسي. فمن المعروف أن كثيرين من بين السياسيين يعتبرون السياسة فن التقلب في المواقف وقد أسقطوا من حسابهم كل مبدئية أو التزام.
لتأخذ مثلاً على المقصود مما تقدّم. وقد حدث خلال الثلاث سنوات الماضية حيث الذاكرة ما زالت حاضرة حتى بالنسبة إلى أدّق التفاصيل.
عندما اندلعت الثورتان في كل من تونس ومصر بدأت الهمهمة على استحياء تسأل، وبعضها عن حسن نيّة، وبعضها عن سوء نيّة، أين القضية
الفلسطينية في شعارات الثورتين.
ثم أصبح السؤال صارخاً واتهامياً في أثناء تولي السلطة (إن جاز التعبير). أو قل توليها من حيث منصبيْ رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء (هذان لا يعنيان أنهما أصبحا أصحاب السلطة أو السلطان، لا سيما إذا لم يكن الجيش والأجهزة الأمنية معهما وتحت إمرتهما).
وبدأ النقد يصل إلى حد الاتهام بالتواطؤ وبيع القضية لأن رئيس الجمهورية المصرية محمد مرسي سكت عن، أو احترم، اتفاق كامب ديفيد، أو لم يلغه، أو لم يتخذ قضية دعم
المقاومة وتحرير فلسطين القضية المركزية في سياسته. واتجه النقد نفسه، بشكل أو بآخر، إلى اتهام حركة النهضة، بعد توليها رئاسة الوزراء، بما يشبه ذلك.
وصار من المألوف أن يتعاظم التركيز على مركزية القضية الفلسطينية ومركزية استراتيجية المقاومة.
ووصل الأمر بالبعض إلى اعتبار أي تركيز على قضية أخرى يشكل معياراً في الحكم على خلل جوهري في السياسة يحمل أبعاداً خطرة جداً تقف وراءه.
وامتدّت هذه المواقف على النهج نفسه في نقد أي لقاء مع مسؤول أمريكي أو أوروبي، أو أي طلب لقرض من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، أو حتى أي مشاركة في ندوة لمركز أبحاث أمريكي أو أوروبي تدور حوله الشبهات بانحيازه للصهيونية.
ولكن لم يمر عام، أو عامان في الأكثر، وإذا بالرئيس مرسي يُطاح به، ويأتي بعده رئيس مؤقت، ثم استقرّ الأمر ليصبح رئيس مصر عبد الفتاح السيسي. هذا وحدث الأمر نفسه تقريباً مع حزب النهضة في تونس من حيث الخروج من واجهة السلطة، مع اختلاف بالتفاصيل، واختلاف في انتقال السلطة.
اللافت الآن أن الدوّي الهائل الذي أُثيرَ حول مركزية قضية فلسطين ومقاومتها أو حتى حول العلاقات بأمريكا وأوروبا وبالمؤسسات المالية العالمية أو بالنظام النيوليبرالي، أو حتى باستدعاء التدخل الأمريكي العسكري جواً، خَفَتَ ضوته أو غاب تماماً.
فقد أصبح من المشروع أن ينتقل التركيز إلى قضية أخرى غير القضية الفلسطينية ومن دون مساءلة أو نقد أو اتهام. وصار إعطاء الوقت الكافي للعهد الوليد حتى يُظهِرَ كل ما عنده رأياً مقبولاً بل ضرورة.
ولا حاجة هنا إلى الدخول في تفاصيل كثيرة تتعلق بمعاهدة كامب ديفيد، أو الموقف من المقاومة الفلسطينية في أثناء حربها مع العدو الصهيوني في صيف 2014، أو من أنفاقها، أو من حصار قطاع غزة، أو من انتفاضة القدس.
ولا حاجة إلى تتبع العلاقات بأمريكا أو المؤسسات المالية العالمية أو القروض، لأن كل ذلك وقائع لا جدال في حدوثها.
على أن الجدال يدور حول الموقفين المتناقضين بالنسبة إلى القضية الواحدة، والعلاقات الواحدة، ومن قِبَل الطرف المعني نفسه. وهو يفعل ذلك من دون أن يطرف له جفن. فينسى اليوم كل ما قاله أمس حول موضوع مركزية القضية الفلسطينية والمقاومة وإنزال ذلك على السياسة المتبعة. وينسى كل ما قاله من تشكيك بأيّ علاقات بأوروبا أو أمريكا حتى لو لم ينتج عنها ما يتعدّى البدايات أو ما يسّمى الغزل الأولي الذي لم يتحوّل إلى خطبة وزواج. وذلك حين يقارنه بما يتخذه من مواقف الآن أو ما يمارسه من سكوت، أو انتظار حتى لا يتسّرع بإصدار الأحكام. ولكن من دون أن يعتبر نفسه تسّرع بإصدار الأحكام القاطعة المانعة اليقينية قبل أقل من عام ونصف العام.
ليس المطلوب هنا تصفية حساب مع مواقف سابقة، أو مجابهة مواقف راهنة، وليس المطلوب أن يُتفّه أو يُقزّم أحد. لأن المطلوب هو التعلّم الصادق حتى لا يذهب المهتمون بالشأن السياسي إلى طريق الانقسام، وحتى يحافظ المبدئيون على مبدئيتهم والمناضلون على نضاليتهم. والأهم أن تعرف أيّ الموقفين كان صحيحاً، أم هما في الحالتين على صواب أو في الحالتين على خطأ.
طبعاً يستطيع الجواب أن يذهب في الاتجاه الذي يرغب فيه عقل المجيب. لأن العقل يمكن أن يقتنع حتى بأنها "عنزة ولو طارت". ولكن مع ذلك لا بدّ من التذكير عسى تنفع الذكرى.