كانت الإشارة واضحة في مقالنا السابق من أن مأزق الأطراف المتصارعة يدفع باتجاه خطوات أكثر تهورا وأكثر خطورة على ما تبقى من استقرار.
ولقد مثلت محاولة القوات التابعة لعملية
الكرامة الاستيلاء على المصرف المركزي فرع بنغازي وموجوداته مؤشرا للاتجاه إلى مزيد من الخروقات دون اعتبار لآثارها على مسار عملية الحوار الذي تراعاه الأمم المتحدة والتي أدانت الخميس الهجوم على فرع المركزي ببنغازي.
العملية تأتي في سياق جملة من التطورات التي عكست نفسها بشكل مباشر على قدرة عملية الكرامة على الاستمرار في خطة السيطرة على بنغازي، المدينة الأهم بالنسبة لقادة الكرامة والتي من غير السيطرة عليها لن يكون لعملية الكرامة حضور سياسي ولا عسكري، بل وربما يؤدي الإخفاق في السيطرة عليها إلى تآكل الكرامة وتفكيكها.
الحاجة الماسة للسيولة تمثل اليوم أكبر التحديات أمام حكومة
طبرق وحتى حكومة طرابلس، غير أن الوضع بالنسبة لحكومة الإنقاذ في طرابلس أقل تأزيما اليوم باعتبار أن هناك عائدا ولو محدودا يأتي من تصدير نحو 300 ألف برميل من الحقول التي تقع في النطاق الجغرافي لنفوذ عملية فجر
ليبيا، بالإضافة إلى بقايا مخصصات ميزانية العام الماضي ومبالغ راجعة من نقل وتحويلات من القطاعات، هذا علاوة على المتبقي في خزانة المصرف المركزي في شكل احتياطيات.
الوضع بالنسبة للحكومة المؤقتة التي يرأسها عبدالله الثني أكثر تعقيدا، إذ إنه لا موارد مالية ثابتة يمكن الاعتماد عليها، ومساعي تأسيس بنك مركزي ومؤسسة للنفط موازية للبنك المركزي وللمؤسسة الوطنية للنفط لم تنجح حتى الآن لأسباب عدة منها توقف إنتاج وتصدير النفط في مناطق شرق البلاد بعد إطلاق عملية الشروق، ومشاكل فنية أخرى بعضها له علاقة بموقف الأطراف الدولية السلبي من خطط حكومة طبرق المتعلقة بإدارة الثروة.
على صعيد آخر قد تشير محاولة السيطرة على فرع المركزي في بنغازي وما يحوي من أموال ضمن الاحتياطي الاستراتيجي أو الاحتياطي القانوي للمصارف التجارية أو ودائع البنوك والمؤسسات العامة إلى محاولة للتعويض عن فاقد بسبب توقف الدعم المالي الخارجي ولو بشكل مؤقت، أو تراجعه بشكل كبير جراء التطورات الإقليمية والتفاهمات بين دول الخليج.
فمن المعروف أن عملية الكرامة، وبإقرار اللواء خليفة
حفتر مرات عدة، اعتمدت في انطلاقها على الدعم المالي والعسكري والفني من أطراف إقليمية، ويبدو أن التغير الجزئي في المعادلة الإقليمية، وأيضا ربما
ضغوط مارستها أطراف دولية رغبة في إنجاح خطة الحوار، قد انعكس على قدرة عملية الكرامة على الحفاظ على زخمها العسكري باعتبار أنها عملية كبيرة وواسعة وتتطلب تدفقا ماليا مستمرا لاستمرارها والتعجيل بانتصارها.
فوق كل ما سبق، شكل العامل الاقتصادي ضغطا كبيرا وبالتحديد تردي الوضع المعيشي لشريحة كبيرة من الناس جراء نقص السيولة والعجز عن دفع المرتبات والتي تمثل المصدر الرئيسي لدخل ما يزيد عن 80% من الليبيين، وأيضا النقص الشديد في إمدادات الكهرباء والغاز والبنزين لعجز حكومة طبرق عن توفيرها لعدم توفر السيولة الكافية.
ويشكل تردي الوضع المعيشي لمعظم سكان المنطقة الشرقية العامل الأبرز الآن في إرباك الكرامة وربما أحد أبرز أسباب فشلها اذا استمر الوضع على ما هو عليه. فبرغم التأييد الذي اكتسبته العملية والذي شمل قاعدة عريضة من سكان بنغازي وكافة مدن الشرق، إلا أن الضغوط الكبيرة التي تعرض لها السكان والتي تنوعت من انتشار الرعب وتوقف المؤسسات الحكومية الخدميةعن العمل وتعطل المدارس والجامعات وإغلاق المستشفيات والدمار جراء الاقتتال الذي لا يبدو أن له نهاية قريبة، ساعدت تلك الضغوط في تراجع التأييد للعملية مقارنة بما كان عليه عند إطلاقها في مايو 2014 وحتى أسابيع قليلة مضت.
ويبدو أن كثيرين ممن توقعوا أن ينجح حفتر في إعادة الاستقرار والأمن في بنغازي بل وفي ربوع ليبيا يعلقون آمالهم على حوار "ليون"، وهو ما منع تطور حراك مجتمعي أو نخبوي يشارك فيه قبائل بغية طرح مسار ثالث بعيد عن الصراعات الراهنة.
ربما لن يؤثر المسار الثالث والزخم الذي قد يحوز عليه على فجر ليبيا ومكاسبها الحاضرة، لكنه قد يكون أحد أسباب فرض قيود على اللواء حفتر وعملية الكرامة.