يقفز بطل
فيلم "الرجل الطائر" (birdman) من نافذة غرفته بالمستشفى وتدخل ابنته فلا تجده.. تقترب من النافذة لتنظر مبتسمة إلى أعلى، في إشارة إلى أن والدها توحد تماما مع الشخصية التي قدمها في سلسلة
أفلام سابقة وحققت له نجاحا كبيرا ثم فشلا عظيما.
فقد اضطره الدور لإخفاء وجهه الحقيقي وارتداء قناع طائر بدلا منه، بينما كانت السلسلة تدر الإيرادات، وحاول الرجل الذي لم يعد مشهورا تماما العودة إلى الأضواء، لكنه بحاجة لمعجزة ما قد تكون هي ذلك الطيران من نافذة المستشفى وصولا إلى الأرض أو السماء طبقا لما يريد المشاهد أن يرى.
هذا الجنون الإبداعي في فيلم "الرجل الطائر" فاز بالجائزة الكبرى بأوسكار التي تقدمها أكاديمية الفنون وعلوم
السينما الأمريكية مضافا إليها ثلاث جوائر أخرى. ورغم التقييم النقدي الذي اعتبر الفيلم تحفة فنية، إلا أن الكثير من التردد كان ينتاب الكثيرين في فوزه بها، ذلك أن الأكاديمية الأمريكية لم تمنح يوما ما فيلما يناقش حياة ممثل جائزتها الكبرى، وهو أمر لا يتعلق بموقف من التمثيل ولكنه يقر بأن مشاكل الممثلين قد تكون نوعية وبالتالي فإنه يصعب على الجمهور التوحد معهم في صالات العرض.
ويبدو لمن يقرأ "الرجل الطائر" على هذا المستوى أن
هوليوود تتجه للعزلة والانكفاء على الذات باعتبارها مركز صناعة الصورة في العالم بما تعنيه تلك الصورة حاليا، حيث إنها تعدّ بطلاً رئيسًا لكل الأحداث الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية والسينمائية.
هذا الأمر انعكاس لذلك التمركز الذي تمارسه الولايات المتحدة حول ذاتها، ويظهر ذلك بوضوح في فرض الإرادة الأمريكية على كل الأطراف العالمية وبـ"معجزات" مخابراتية وسياسية أقرب للطيران من نافذة مستشفى.
فالدولة الأكبر في العالم تحقق أحلام ساستها دونما تردد ودون تصور بأن ما تفعله يؤدي إلى إسالة دماء لا تنتهي أو احتباس حراري قد يدمر الأرض ذاتها.. هي إذن العزلة والتمسك المجنون بالحلم الذي انتهت صلاحيته وفرض الإرادة، حتى لو على حساب العقل والمنطق والضمير أحيانا.
وفي المقابل، فإن فيلم "القناص الأمريكي" فاز بجائزة واحدة عن ماكساج الصوت رغم توقعات عديدة بفوزه لكن قدرا من الكذب أقل مما طرحه حول " الآخر.. الشرير " كان يمكن أن يكسب. فرغم براعة المخرج العجوز كلينت إيستوود إلا أن اتهامات العنصرية لاحقت الفيلم ويبدو أن أغلب نقاد الأكاديمية الأمريكية قد اتفقوا على أن الكذب والزيف لا يحتمل أكثر من مجاملة حتى وإن كان تمجيدا وتبريرا لقاتل أمريكي.
وكان فيلم "فندق بودابست الكبير" هو الوحيد الذي حصل على أربعة تماثيل أيضا، معادلا بذلك "الرجل الطائر" وإن لم يكن من بينها أوسكار أفضل فيلم.
لكن الفيلم الذي يعالج بخصوصية شديدة وكوميديا راقية وصورة رائعة لتلك العلاقة الملتبسة بين الغرب والشرق، وتلك الصورة الذهنية المشوهة لدى الغربي عن الشرقي، اتخذ طابعا كوميديا، وهو أحد الموانع المهمة؛ حيث تتعالى جائزة الأوسكار عن منح الجائزة الكبرى لفيلم كوميدي. لكن المانع الأهم هنا هو تلك النبوءة التي يقوم عليها الفيلم، حيث يرث الهندي المسلم فندقا رائعا من صديق غربي مات فداء لما تميز به من مروءة ووفاء لصداقة قصيرة لكنها عميقة، وهي نبوءة كابوسية لنقاد غربيين من المخرج ويس أندرسون المتزوج من لبنانية والعاشق المعجب بالشرق.
وإذا كانت جائزة أفضل ممثل قد أثارت جدلا كبيرا بعد حصول الشاب إيدي ريدماين عليها عن فيلم "نظرية كل شيء"، فقد استحقت جوليان مور جائزتها عن فيلم "ما زلت أليس" والذي يعالج أزمة العنف ضد النساء بشكل عميق وواع تماما، لدرجة أنه يمكن قراءته على اعتبار أن قضيته الأساسية هي المحاولات المستمرة من قبل الأقوى لمحو ذاكرة وهوية الأضعف وإيهامه دائما بما يحقق عبوديته الدائمة.
ولم يحظ فيلم "سيلما" بأي جائزة، إلا أن الأكاديمية شاءت ألا يخرج دون تمثال فمنحت أغنيته الرائعة "المجد" جائزة أفضل أغنية أصلية لفيلم.
ووقع صانعو فيلم "سيلما" الذي يرصد جزءا من سيرة داعية الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ في خطيئة كبري لا تقل عن خطيئة القناص الأمريكي، حيث أعاد كتابة تاريخ الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون بشكل مغاير لما كان عليه، ليخلق صراعا دراميا بينه وبين كينغ رغم اتفاق الاثنين في الرأي ورغبتهما معا في منح السود حق التصويت في الانتخابات الأمريكية.
لذلك، فقد خرج من الحفل من دون تقدير حقيقي وهي عقوبة لا تقل عن عقوبة القناص الأمريكي على الزيف الذي ميزهما بشكل واضح، بحسب مراسل الأناضول.
وكان لا بد من تمجيد مخترع أول كمبيوتر في التاريخ وصاحب فكرة فك شفرة "إنيغما" الألمانية التي كانت سببا حاسما في انتصار الحلفاء على المحور في الحرب العالمية الثانية، لذلك فقد فاز فيلم لعبة التقليد (imitation game) بأوسكار أفضل كتابة سيناريو مقتبس.
وجاء فوز فيلم "إيدا" البولندي متوقعا تماما فلا أوسكار يخلو من الهولوكوست، ولكن القصة هذه المرة شديدة الحساسية، حيث تكتشف إيدا التي تربت في الدير وهي على وشك أداء طقوس الرهبنة أنها ابنة أسرة يهودية تعرضت للغدر أثناء هروبها من قوات الزعيم الألماني الراحل أدولف هتلر، وتبحث عن رفات عائلتها المغدورة وتقوم بدفنها في مدافن اليهود، لتنتهي مهمتها وتعود إلى الدير. وبينما تبدأ طقوس الرهبنة فإنها تفر إلى بيت خالتها وترتدي ملابس مكشوفة وتشرب من خمر خالتها، وتبدأ في ممارسة طقوس خالتها التي حولها قتل عائلتها من قاضية إلى عاهرة.
وترفض إيدا إذن التخلي عن يهوديتها الموروثة وتستجيب لنداء جيني – فيما يبدو – داخل الجسد اليهودي، وتؤكد بشكل نهائي أن اليهود لن يعيشوا إلا في غيتو يهودي حتى لو كانت الكنيسة مأوى وحماية لهم من التشرد والموت.