في حواره مع جريدة "الشرق الأوسط" السعودية، قال
عبدالفتاح السيسي إنه قدم اعتذارا إلى أمير
قطر، الشيخ تميم بن حمد، بسبب الإساءات التي وجهها الإعلام
المصري إلى والدته الشيخة موزا.. والتي لم تتوقف طوال سنوات، لدرجة أنها يمكن أن تملأ كتبا كاملة، ما بين سباب وشتائم من أقذر الألفاظ، مرورا بكافة الاتهامات الممكنة.
يقدم السيسي نفسه إذن، باعتباره منفصلا تماما عن التأثير في الإعلام المصري، رغم أن أي طفل يمكنه بسهولة رؤية العكس تماما.
فمنذ
الانقلاب العسكري، كان الهدف واضحا منذ البداية، وهو إسكات أي أصوات من المحتمل أن تقدم صوتا معارضا لما يجري، أو ترفض الإملاءات المتوقعة من النظام الجديد لها.
وبالفعل تحقق ما أراده السيسي، وأعلنت جميع وسائل الإعلام تأييدها ومباركتها لـ"ثورة 30 يونيو" وظهر إعلام الصوت الواحد، الذي كان سائدا في مصر خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ولم يعد من المستغرب أن يتشابه خطاب الصحف القنوات وتغطياتها لما يحدث، لدرجة أنها باتت تقدم نفس المحتوى تقريبا، وأصبح مكررا خروج الصفحات الأولى من الصحف وهي تحمل نفس العناوين.
وكان مسك الختام، التسريب الذي نشر لمكالمة بين اللواء عباس كامل، والعقيد أحمد علي، المتحدث العسكري في ذلك الوقت، وهما يتحدثان عن "الواد يوسف الحسيني والبت عزة مصطفى والناس بتوعنا في الإعلام" ويملي عليه ما يجب أن تقوله الصحف والبرامج التلفزيونية بالحرف، وهو ما ينسف فكرة استقلالية الإعلام المزعومة.
لكن السيسي قدم تفسيرا من أغرب ما يمكن لتبعية الإعلام الواضحة له، بعدما قال في نفس الحوار: إن الإعلام في مصر لديه هامش من الحرية، لدرجة أن البعض يظن أنه مؤيد للنظام من فرط الحرية التي يتمتع بها، وهي عبارة ذكرتني بما قاله ممثل في أحد أفلام الأبيض والأسود في خمسينيات القرن العشرين لحبيبته، "أنا بحبك لدرجة إني مش هتجوزك". ناهيك عن أن بديهيات العمل الإعلامي لا تعتبر السباب والشتائم وتوجيه الإهانات والخوض في الأعراض حرية، وإنما هي شيء آخر لا أستطيع كتابته هنا.
يريد السيسي أن يقنعنا بأنه اضطر إلى الاعتذار لأمير قطر، بدلا من أن يأمر إعلامه بالتوقف عن السباب، فقط لأنه لا يريد المساس بحرية الإعلام. رغم أن قوات الجيش والشرطة تحركت بعد دقائق من إلقائه بيان الانقلاب على مرسي، لمحاصرة الفضائيات التي من المحتمل أن تعارض ما جرى، وإغلاقها وإلقاء القبض على العاملين فيها.
ومنذ تقلده منصب الرئاسة، يحرص السيسي دائما على الاجتماع بصورة دورية برؤساء تحرير الصحف ومذيعي البرامج التلفزيونية، ولا يمل من توجيه التعليمات إلى الإعلام، وكيف يمكن أن يعالج القضايا المختلفة.
ولا ننسى كيف انتفض السيسي غاضبا من انتقاد إحدى الصحف للحكومة، بعد تفاقم أزمة الكهرباء، مستنكرا هذا الهجوم، ومن يومها لم يتكرر هذا الأمر. وقائع تخبرنا عن حرية الإعلام في عهد السيسي الذي يريد أن يقنعنا بها.
اللافت أن اعتذار السيسي صرح به قبل أشهر، أثناء وجوده في نيويورك لإلقاء كلمته في الأمم المتحدة، لكن وسائل الإعلام في مصر إما أنها نشرت التصريح على استحياء، أو أنها تجاهلته ولم تشر إليه، لكنها هذه المرة عنونت جميع الصحف أخبار تغطيتها لحوار السيسي مع الشرق الأوسط بهذا الاعتذار. ومن الواضح أن تعليمات عباس جاءت بضرورة التهدئة ونشر الاعتذار لمعالجة فضيحة التسريب الأخير وتدارك تداعياته.
لكن يبدو أن هاتف المذيع خيري رمضان كان مشغولا، فلم يستطع عباس الوصول إليه، أو ربما جاءته التعليمات متأخرة، فقد هاجم أمير قطر قبل نشر حوار الشرق الأوسط بيوم واحد، مستخدما نفس الأسلوب المنحط في الهجوم على والدته. وهو ما يمكن أن ينسف اعتذار السيسي ويعيد الأمور إلى نقطة الصفر من جديد، إلا لو تدارك عباس الأمر ووبخ المذيع على ما قاله، وهو ما سيحدث في الأغلب.
أما في ما يتعلق بالإساءات إلى الشيخة موزا، وكيف أن السيسي لا يرضى عنها، فيكشف لنا تسريبا آخر عن كذب ادعاء السيسي، بعدما احتوى على سب اللواء عباس كامل والدة أمير قطر أمام السيسي، دون أن يبدي الأخير أي اعتراض، وهو ما يكشف لنا عن مصدر البذاءات الذي يمد وسائل الإعلام بمخزونها من السفالة والانحطاط.
في خطاب السيسي الأخير حرص السيسي على نفي هذا التسريب بالتحديد، قائلا إنه لم يتفوه بأي إساءات ضد أي شخص أو دولة أو كيان، وإنه كذلك لا يسمح بحدوث ذلك أمامه من أي شخص "في إشارة إلى سب عباس كامل لوالدة أمير قطر".. كلام يصدق فيه قول المثل الشعبي القائل "اللي علي راسه بطحة".
في تسريب "البت والواد" يتحدث اللواء عباس كامل بصراحة عما سماها "تلبيس العمة" للمشاهدين، وهو تعبير مصري دارج معناه خداع الشخص الذي أمامك وإيهامه بقصة أخرى مختلفة عن الحقيقة، ويبدو أن عباس كامل تأثر في هذا أيضا بالسيسي، الذي يريد تلبيسنا العمة والادعاء أنه لا علاقة له بما يقوم به الإعلام المصري، رغم أنه من يحرك الخيوط كلها بين يديه.