منذ الحربين العالميتين في القرن الماضي، لم يشهد القوس الجغرافي الممتد من شمال افريقيا الى الهلال الخصيب مروراُ بالخليج وانتهاء باليمن نزاعات دموية كتلك التي يشهدها الآن في الحروب الاهلية والحروب بالوكالة داخل الحدود الوهمية وعبرها، والتي ادت الى مقتل مئات الآلاف، وتقويض نظام الدول الذي برز بعد الحربين العالميتين، وتفكيك المجتمعات الى مذاهب وقبائل وإثنيات واقليات متحاربة، انضم اليها في سوريا والعراق "مجاهدون" قتلة يطوفون الارياف والصحارى والمدن، ويلوحون بالسيوف ويقطعون الرؤوس وهم يهتفون باسم الله ويهوسون بقرب نهاية العالم.
الحرب الاهلية الاميركية في ستينات القرن التاسع عشر هي الحرب الاشرس في تاريخ الولايات المتحدة، لكنها دارت بين جيشين منضبطين وانتهت بغالب ومغلوب. الحرب الاهلية الاسبانية في ثلاثينات القرن العشرين دارت أيضاً بين طرفين، وعلى نقيض الحرب الاهلية الاميركية شاركت فيها جيوش اوروبية و45 الف متطوع اجنبي، وانتهت أيضاً بغالب ومغلوب.
الحروب الدائرة في المنطقة الان لا ينطبق عليها النموذجان الاميركي والاسباني لأنها حتى عندما بدأت بين نظام سلطوي ومعارضة شعبية، كما حصل في سوريا وليبيا واليمن، تحولت لاحقاً الى"حروب" اهلية مختلفة داخل كل بلد حيث تتقاتل قوى المعارضة المسلحة في ما بينها وكذلك ضد النظام انطلاقا من اعتبارات ومصالح سياسية أو مذهبية أو إيديولوجية أو جهوية أو إثنية. وعندما يضاف الى ذلك تدخل القوى الاقليمية والعالمية بما في ذلك ارسال قوات خاصة أو خبراء، أو تنظيمات حليفة لها كما فعلت ايران في العراق وسوريا عبر الحرس الثوري و"حزب الله" اللبناني، وكما يمكن ان تفعل دول عربية قريباً في اليمن، تتحول هذه الحروب الى حروب بالوكالة تتداخل فيها مختلف العوامل والاعتبارات الجيو- سياسية والامنية والمذهبية والاقليمية والدولية. انها حرب الجميع ضد الجميع. وما يميز أكثر هذه الحروب ويدمغها بوحشية لا سابقة لها هو العامل المذهبي والذي تعود تراكماته الى عقود.
هذه الحروب الجامحة هي نتاج تراكمات عقود من
التسلط السياسي والديني لنخب فاسدة، وغياب الحكم الصالح، والاحتكار الاقتصادي والركود الثقافي. ولهذا السبب فإن الخروج من هذا المأزق الحضاري سوف يتطلب عقوداً طويلة من الارهاصات السياسية والاجتماعية والثقافية بعد الارهاق التام للمحاربين، وبروز عقلية نقدية تنبذ الارث الثقافي والديني الآسن، وترفض نظريات المؤامرة، وتنطلق من مبدأ ان الانسان مسؤول عن نفسه وعن عالمه وقادر على صياغة حاضره ومستقبله، في دول مدنية ودستورية تسودها حقوق المواطنة وتنفصل فيها السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. يجب ان نصرخ بأعلى صوت: حتى الغالب لن ينتصر، لأنه في حرب الجميع ضد الجميع، يخسر الجميع.
(نقلا عن صحيفة النهار اللبنانية)