مقالات مختارة

بيان مبارك ينقل الفلول من الدفاع إلى الهجوم!

1300x600
كتب محمد عبد الحكم دياب: ضربات متتالية موجهة إلى العقل المصري، وأوشكت أن تفقده اتزانه، ونجحت حتى الآن في إصابته بالدوار والتشتت الدائم، وكانت آخر الضربات «مداخلة» بثتها قناة فضائية خاصة للرئيس المخلوع حسني مبارك؛ بمناسبة الاحتفال بأعياد سيناء، والغالبية العظمى من متابعيها تعرف أنها قناة فلولية بامتياز؛ لا هم لها إلا تغييب العقل وتشويه الوعي، ونذرت نفسها مع غيرها من قنوات مملوكة لكائنات لا علاقة لها بالإعلام من قريب أو بعيد، وكأنها هبطت على الناس من كواكب مجهولة؛ لم تكن مكتشفة قبل عام الثورة 2011. 

وهذه القناة أخذت على عاتقها؛ هي وما يتبعها من صحف ومطبوعات ومواقع إلكترونية، رد الاعتبار لمنظومة الاستبداد والفساد والتبعية والإفقار، وكانت ظهيرا هجينا وجد الرعاية الكاملة من عائلة الرئيس المخلوع، واهتزت هذه المنظومة تماما وكادت أن تسقط أمام هبة الشعب في كانون الثاني/يناير 2011، وثبت أنها مثل الحية؛ إذا ما بقي منها جزء تجددت وعوضت ما فقدته، وتعود من جديد لتنفث سمومها، وتنشر الموت بين كل من تقابله.

وتلك المنظومة خضعت لـ«كبيرهم الذي علمهم السحر» طوال ثلاثة عقود، وتخصصت القناة المقصودة من بدايتها في الثامن والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2011؛ في خدمة الفلول وخلاياهم النائمة واليقظة؛ كجماعات «آسفين يا ريس»، ودخل صاحب القناة الفلولي إلى مجال الإعلام تحت ضغط الاضطرار، وهو مجال لا يحقق لرجل المال ما يكفيه من ربح، بجانب ما يجلب من مخاطر على أعمال التجارة والشطارة، وضغط الاضطرار غير أداء الرسالة، فالأولى فيها إرغام، والثانية يحكمها مبدأ ومصلحة عامة، وكان الإحساس بالخطر وراء البحث عن وسيلة مؤثرة على الرأي العام، وتمكن من محاربة الثورة، ومن الرد على الخصوم والتشهير بهم.

في البدايات الأولى لعمل هذه القناة وجدت من يفتح ملفاتها ويكشف مراميها، ويعري أصحابها ومموليها.. لكن ما كادت هذه الملفات تفتح حتى أغلقت. وقد يكون هذا ما دفع الناقد السينمائي طارق الشناوي في مقاله بصحيفة «التحرير» (عدد 27/ 04/ 2015)؛ إلى اتهام النظام الحالي بتجهيز حملة لتبييض وجه مبارك ورجاله.

وربط ذلك بحضور جمال وعلاء عزاء والدة الكاتب الصحفي مصطفى بكري بميدان التحرير. وإصرار أحمد عز على خوض الانتخابات القادمة، وانتظار زكريا عزمي إشارة البدء والتحرك؛ كما يقول!

وجاءت المداخلة في وقت يوشك فيه صبر المواطن على النفاذ، بفعل «الحرب النفسية» الضاغطة على أعصابه، واستمرار الزواج المحرم بين المال والسياسة وانتهاء بسيطرة رجال المال والأعمال على سوق الإعلام والصحافة الورقية والإلكترونية. 

و"مملكة كليوباترا"؛ صفة أطلقتها صحيفة «الشروق» المصرية على الامبراطورية المالية لصاحب القناة، ووردت ضمن تحقيق نُشر على صفحاتها قبل ما يقرب من ثلاث سنوات. 

أما كليوباترا فهو اسم تجاري لنوع من الخزف الإسمنتي (السيراميك)، وتبدأ حدود هذه الامبراطورية من القطامية؛ في أقصى شرق القاهرة؛ إلى العين السخنة على خليج السويس، وتبعد 55 كيلومترا عن ميناء السويس، وهذه المساحة المترامية تمثل «عاصمة» لهذه الامبراطورية، وأملاكها وأراضيها الممتدة في طول مصر وعرضها، وبينها منشآت ومصانع مقامة على 23 مليون متر مربع، ومساحات أخرى شاسعة للمحاجر والمخازن. 

يخرج منها أشهر أنواع الخزف الإسمنتي، وأطقم الحمامات للمنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط والعالم، والمداخلة، التي استغرقت 14 دقيقة؛ لم تكن إعلانا مدفوع الثمن، وبدت توجيها سياسيا وحركيا واضح الهدف، واستعراضا للقوة، من أكبر زعماء الفلول وأهم «حيتان» المال مجهول المصدر، رغم بداياته المتواضعة في سبعينيات القرن الماضي. 

والنقلة حدثت في 1983 بتأسيس مصنع للخزف الإسمنتي (السيراميك)، وتلاه صعود اقتصادي سريع ثم حضور سياسي أسرع، وصل ذروته في عصر «الرئيس الموازي» جمال مبارك، وأسندت إليه مناصب سياسية وبرلمانية وأكاديمية، وكان أول رجل مال يخترق جامعة القاهرة؛ معتمدا على قوة علاقته بنجل الرئيس المخلوع، ومكنه ذلك من إحداث تغييرات تشريعية وقانونية؛ جعلت منه ومن أمثاله أباطرة وحكاما تجري في عروقهم الدماء الزرقاء، وحولتهم إلى «بقر مقدس»؛ محصن ضد المساءلة والنقد والمحاسبة، وتمكن من رئاسة الجمعية البرلمانية لدول البحر المتوسط، ولجنة الصناعة والطاقة بمجلس الشعب، وعضوية أمانة السياسات بالحزب الوطني المنحل، وجمعية الصداقة المصرية الليبية، وجمعية الصداقة المصرية الإيطالية.

وكانت الحصانة البرلمانية تحميه. ولم تكن كافية لشخص مولع بالأضواء، ومدرك لتأثير الإعلام على الرأي العام، فكان الأسرع في تأسيس قناة فضائية بعد الثورة مباشرة، وجعلها ملتقى الفلول ومنبرهم. وأخضعها لتوجيهاتهم، ومع أنه من أبرز زعماء الثورة المضادة، لكن تجده في الصفوف الأولى في الاحتفالات الرسمية الحالية، وعلى تواصل مع الحكومة، وأغرت ثرواته الطائلة مجهولة المصدر مسؤولين رسميين، وشبه رسميين، فاستطاع الاحتفاظ بامتيازاته وامبراطوريته الكبرى، وفوق هذا حصل على المزيد من الأراضي المملوكة للدولة.

هذا الشخص يبلغ من العمر 64 عامًا هذه السنة، وسجله مزدحم بالقضايا؛ بعضها قديم من سنوات؛ مثل اتهامه بالتغطية على جريمة قتل ارتكبها ابنه بمنتجع «مارينا» بالساحل الشمالي، وأشهر قضاياه قضية «موقعة الجمل» وقتل المتظاهرين إبان ثورة 25يناير، بجانب اتهامات أخرى عديدة؛ منها الاستيلاء علي أكثر من 22 كيلو مترا من أراضي الدولة في مدينة «بدر»، على طريق القاهرة السويس، ومئات الأفدنة في سيناء، وقروض مصرفية بلا ضمانات، وعقارات بنيت بالمخالفة للقانون، وأنهى مبارك قضاياه كافة بالتصالح؛ مقابل استمرار دوره فيما وصف بـ«العمل الخيري»!!

وبدأت مداخلة الرئيس بتهنئة الشعب؛ الذي خلعه، بأعياد سيناء. وكان من الواضح أن المداخلة مكتوبة ومصاغة بإحكام، وكأنها «بيان رئاسي» إلى مواطنين نفضوا أيديهم منه؛ مشيدا بنفسه وبدوره كمقاتل «يشعر بالفخر والعزة» شأنه في ذلك «شأن كل مقاتل وكل جندي مصري يحمل شرف العسكرية المصرية، وينتمي للمؤسسة العسكرية المصرية العريقة»، وعرض لتاريخه مع الحروب التي عاصرها منذ حرب 56، ثم حرب 67 و73؛ مستعرضا جهده في بناء القوات المسلحة بعد النكسة، ومشيدا بما قام به في إحباط مشروع الإسلام السياسي للاستيلاء على الحكم بعد اغتيال السادات، ولم ينس الرئيس المعزول محمد مرسي «وأنه كان بصدد التنازل عن جزء من سيناء». 

هذا «البيان» يؤذن بتحول الفلول من الدفاع إلى الهجوم؛ ومقدمة للعودة واحتلال المراكز العليا في الدولة، وخطر هذا الطموح الكاذب أنه قد يؤدي إلى التعاون مع جماعات الإرهاب المذهبي والطائفي والانعزالي؛ لحسم المعركة الدموية الجارية على الحكم. 

وبدا خبث «البيان» حين عمل على الوقيعة بين الشعب والقوات المسلحة ورئاسة الدولة؛ وانتهى بنداء لجموع المصريين بالوقوف وراء القيادة الوطنية للحفاظ على البلاد، التي تواجه العديد من التحديات، وتابع: «أبناء المؤسسة العسكرية وعلى رأسهم الرئيس عبد الفتاح السيسي يعلمون قيمة هذا البلد، وعلى الشعب أن يقف خلف رئيسه في كل القرارات»، مؤكداً ثقته فيه لكي يََعْبر بمصر هذه المراحل المعقدة والخروج بها إلى بر الأمان؛ بهذا أعطى الانطباع بأن الحكم الحالي استمرار لحكمه!!

منحت القناة المثيرة للجدل مبارك فرصة ذهبية؛ قدم فيها «بيانا رئاسيا»؛ عرض فيه لتاريخه العسكري، وتجاهل رعايته لمنظومة الاستبداد والفساد والتبعية والإفقار، وزاد عليها التوريث، ولم يعتذر أو يبد ندما على ما اقترف في حق الشعب والوطن..

ونجحت القناة في إعادة شبح من الماضي الكئيب، وهيأت أمام الفلول فرصة الانتقال من خنادق الدفاع إلى مواقع الهجوم، وقد يتحول ذلك إلى انتصار عابر للفلول، إلا أنه يضعف من الدولة ويقضي على هيبتها!!

(عن صحيفة القدس العربي 2 أيار/ مايو 2015)