أطلعتني صديقة على رسالة تلقتها من مرشح دائرتها، ردا على خطاب أرسله طفلها ابن السابعة: «شكرا يا مستر... (الطفل دون السن القانونية فأخفيت اسمه عن النشر) على رسالتك التي اهتم النائب بفحواها، وسيجيبك في أقرب فرصة».
رسالته للمرشح قال فيها الطفل: «عزيزي مرشح الدائرة، أنبهك إلى ضجري من غباء فريقك الانتخابي، أنا لست زوج أمي، أو أباها أو أخاها، بل إنني دون سن التصويت بـ11 عاما، لكنكم تمطرونني برسائل موجهة إلى بالغ. عندما دقوا جرس الباب، واجهتهم بأسئلة بحثتها مع زملائي في المدرسة، ولم يستطع فريقك الانتخابي الإجابة عن أي منها، وكانوا جاهلين بأرقام ومعلومات يعرفها زملائي في الفصل.. والتحية. المخلص...».
الفريق الانتخابي العمالي تضمن رئيس المجلس المحلي، ومدير حملة المرشح، بصحبتهما محلل سياسي لإدارة المركزية لحزب العمال، تصببوا عرقا أمام أسئلة طفل في السابعة عن ميزانية التعليم، وميزانية الملاعب الرياضية لأطفال المدارس، وأزمة المواصلات التي تعطل رحلته للمدرسة، ومشكلة انتظاره خمس ساعات في غرفة الطوارئ في المستشفى.
عندما بدأوا في انتقاد حكومة المحافظين، قاطعهم الطفل: «سأسأل المرشح المحافظ عندما يأتي لزيارتنا.. هل أجبتم عن الأسئلة؟». أحضر الطفل كراسة الفصل، وقرأ منها أرقام ميزانيات الصحة والتعليم، ليصحح أخطاء فرق الدعاية الانتخابية.
وحسب الأم، لم يكن حظ مرشحي الديمقراطيين الأحرار والمحافظين أسعد مع الطفل اللبق.
لم أشك في مصداقية حكاية الأم، بسبب تجربتي الشخصية. زعيمة حزب الخضر مرشحة في دائرتي، أثرت معها ومع فريقها خلو برنامجهم من مشروع قانون لحماية الهواء النقي والمساحات الخضراء بتجريم قطع أو تعمد إتلاف الأشجار. قال نائب رئيس الحزب إنها فكرة عظيمة، واستغربت كيف لم يخطر مشروع القانون ببال راسم سياسة حزب اهتمامه الأول بالبيئة؟
لم يقدموا إجابة عن مصدر ميزانية بناء نصف مليون مسكن أو تمويل خدمات المهاجرين الذين يريدون فتح الأبواب لهم.
اهتمامهم انحصر تاريخيا بالبيئة، وأخطأوا بالخوض في قضايا أكبر من تفكيرهم السياسي كالإسكان والهجرة، وتأميم الصناعات والمرافق، والدفاع والتسليح النووي، بينما لهم نائبة واحدة (من 650 نائبا برلمانيا)، وقد تفقد مقعدها في انتخابات يوم الخميس.
فات
ساسة بريطانيا، وأغلبهم شباب، أن أساس
الديمقراطية البرلمانية هو الدائرة المحلية؛ حيث إن المناقشات على عتبات المنازل ومع ربات بيوت يتسوقن، وعلى المقاهي (وفي كل دائرة ما يعرف بالـhustling ولا ترجمة عربية لها، فهي حضور مرشحي كل الأحزاب في مقهى أو مدرسة محلية لمواجهة أسئلة ناخبي الدائرة).
بعكس ساسة الأمس، معظم ساسة اليوم لم يمارسوا أعمالا عادية في المجتمع، ويختلطوا بالناس العاديين، فيفضلون الحديث في التلفزيون عن مناقشات الدائرة، أو قضوا خدمة عسكرية (لذا صوتوا للحرب في العراق وأفغانستان، لأنهم لم يختبروا أهوال الحرب) بل احترفوا السياسة، كخريجين يعملون باحثين سياسيين، ويدفعهم الحزب لعضوية البرلمان ضامنا ولاءهم للزعيم.
تغير المشهد الانتخابي في السنوات الخمس الأخيرة نتيجة تقصير الساسة في واجبهم. سمحوا لمديري شبكات التلفزيون، غير المنتخبين، والذين لا يخضعون للمحاسبة، بتحديد الأجندة السياسية في الانتخابات، سواء الشبكات التجارية أو «بي بي سي» بأجندة يسارية (تهدف إلى تغيير النظام الانتخابي من الدوائر إلى القوائم، وتقليص فرصة المحافظين، بعد وعدهم بإجراء استفتاء حول عضوية الاتحاد الأوروبي، الذي تتلقى الهيئة دعمه وتفضل سياسته على السياسة القومية).
التلفزيون وسيلة عامة غوغائية تعتمد على ما يعرف بالوحدة الإلكترونية sounbyte، والأقرب هو «الشعار القصير الجذاب» لذا شوش الجدل الانتخابي المتلفز الرأي العام بشعارات حول الدفاع أو الهجرة (يمين يخيف الناخب من الهجرة، ويسار يضحك على الناخب بادعاء انهيار الاقتصاد بغير مهاجرين) أو البيئة أو خلق وظائف. التلفزيون وسيلة ترفيه، وخشية الملل، لا يسمح معدو المناظرات بوقت كاف للإجابة بالتفصيل عن أسئلة تدور ببال طفل في السابعة.
أسوق النموذج كمثال للقراء العرب، وصحافتهم تمطرهم بوابل عن الإصلاحات الدستورية والديمقراطية، بلا نماذج عملية يستفيدون منها. فمثلا لا «بي بي سي العربية» بإمكاناتها، ولا أي وسيلة صحفية عربية أخرى، كلفت نفسها عناء استطلاع رأي البريطانيين من أصول عربية أو متحدثي العربية ممن لهم حق التصويت لأي حزب سيصوتون يوم الخميس؟ ولماذا؟
أمر لا يصدقه العقل عن إضاعة الفرصة لاستطلاع كيف تأثر أو تطور وعي الوافدين العرب السياسي بعد إقامتهم فترة طويلة في بلد يعدّ العاصمة المشتركة للعرب، وتعرضهم لثقافة أقدم وأعرق وأشهر وأنجح الديمقراطيات.
آخر تجربة في هذا المجال كانت في انتخابات 1987، عندما كلفتني «الأهرام» المصرية (وكانت تصدر طبعة دولية من لندن) بعمل هذا الاستطلاع بين المصريين البريطانيين والعرب. واستعانت بفريق من الباحثين (طلاب جامعيين يدرسون علوما شرق أوسطية أو أبناء الجيل الثاني والثالث من المصريين البريطانيين). ركزنا على عدة مراكز سكانية أولها لندن.
عام 1987، صوت أصحاب الأعمال كخدمات التاكسي، ووكالات العقار والمقاهي، للمحافظين؛ لأن قوانينهم تحفز المستثمر وتشجعه على العمل بدلا من الاعتماد على دعم الدولة.
العاملون لديهم، والأقل حظا في التعليم، صوتوا للحزب الذي كان في الحكومة وقت هجرتهم، بمقارنة ما صادفوه من خدمات ومستواها والحرية الفردية وقتها بمثيلتها في البلدان التي جاءوا منها (خاصة مصر في العهد الناصري ومطلع السبعينات، وبلدان رأسمالية الدولة وتسلط الدولة البوليسية كسوريا والعراق وليبيا).
ومسحنا مناطق صناعية، كبرمنغهام وشيفيلد وليفربول؛ حيث تجمعات مهاجري عدن واليمن، وهم الأقدم استيطانا في بريطانيا، وغالبيتهم صوتوا للعمال؛ بسبب قوة وشمولية تنظيمهم في اتحادات نقابية عمالية مرتبطة بالعمال.
واستهدفنا تجمعات أكاديميين وأطباء (عدد كبير منهم عبر مكالمات هاتفية، فلم تكن الإنترنت والبريد الإلكتروني قد ظهرا بعد). معظمهم مصريون وبعضهم عراقيون (وصل الأطباء العراقيون بأعداد كبيرة بعد عامين، بسبب بطش البعث الصدامي).
تأثر التصويت بالتشكيل الفكري المسبق. المصريون من نشطاء الحركة الطلابية في السبعينات كمناهضين لإصلاحات الرئيس الراحل أنور السادات، ومعظمهم يساريون صوتوا للعمال. الأطباء تحت الانطباع بأن الخدمات الصحية مرتبطة بدعم الدولة، صوتوا للعمال، فالفلكلور السياسي يصور المحافظين كتهديد للتأمين الصحي.
الثلث منهم صوت سلبيا حسب تجربته الأكاديمية، أي ضد حزب الحكومة الذي تسبب في نقص الدعم وتمويل معهده الأكاديمي.
واستخلصنا أنه كلما ارتفع تعليم المهاجر العربي وطالت مدة إقامته لتحديد مصلحته الاقتصادية اقترب مزاجه السياسي من مزاج تصويت الناخب بريطاني الأصل.
(نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط)