بينما يخيم الليل على مدينة "أدرنة" التركية (250 كيلومترا غرب اسطنبول)، يخفض "أبو محمد"، سائق السيارة المتجهة إلى الحدود البلغارية، صوت المسجل الذي يصدح بأغنية عراقية حزينة، ثم يتوجه بالسؤال للشاب العشريني "جنكدار" الذي يجلس بمحاذاته قائلا: "لم أنت حزين؟ عما قريب سوف تطأ قدماك التراب الأوروبي، الذي تحلم به".
لكن جنكدار، السوري الكردي، يمعن في الطريق الطويل وكأنه ينتظر شيئا ما. وفي تصرف غير متوقع، يطلب من أبي محمد أن يتوقف بالسيارة لأخذ قسط من الراحة، مع أنه لم يمض وقت طويل على الاستراحة السابقة، لكن جنكدار ألح في الطلب قبل الوصول إلى السيارة الأخرى التي ستعبر بهم الحدود التركية البلغارية، وفق المتفق عليه مسبقا مع المهرّب.
يقول جنكدار، بعد أن ركن أبو محمد سيارته أمام أحد المطاعم على جانب الطريق: "مصير حياتي يتوقف على النجاح بالوصول إلى الأراضي الألمانية، فلم أعد أملك شيئا للبيع إن باءت محاولتي هذه بالفشل".
ويروي السائق أبو محمد لـ "عربي 21" حكاية الشاب جنكدار، ومختصرها يفيد بأن جنكدار أقدم على بيع كليته لمريض تركي، في أحد مشافي مدينة أورفة التركية، بمبلغ قدره 6000 يورو. كما اضطر لاستدانة القليل من المال حتى يستطيع تأمين تكلفة
الهجرة، هربا من الفقر الذي كان يعيشه وأسرته في ريف مدينة الحسكة السورية، وتزامنا مع مخاوفه من قرار التجنيد الإجباري الذي يفرضه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي على الشبان الأكراد في المناطق الخاضعة لسيطرته.
ويعمل أبو محمد سائقاً لدى مكتب لتهريب المهاجرين، مملوك لشخص سوري في مدينة اسطنبول التركية، ويتقاضى هذا المكتب مبلغا قدره 7500 يورو، لقاء تهريب الفرد الواحد من الأراضي التركية إلى ألمانيا، عن طريق البر.
وتشمل مهمته إيصال الأشخاص من منطقة "إكسراي" الشهيرة وسط اسطنبول، إلى الحدود البلغارية، حيث تنتظرهم هناك سيارة أخرى تتولى هي بدورها إدخالهم للأراضي البلغارية من النقطة الحدودية النظامية التي تصل أراضي البلدين.
يقوم المكتب بعمله بشكل شبه علني، لكن بقليل من التمويه، فالمكتب يعلن أنه شركة مقاولات فقط، كما أخبرنا أبو محمد. ويضيف: "يتمتع صاحب المكتب بشبكة علاقات كبيرة تبدأ في الأراضي التركية، وتنتهي في الأراضي الألمانية".
أبو محمد فضل ترك العمل على ربحيته، لأنه شعر بنفسه في حالة من الحالات أنه جزء من عصابة تتاجر بمقدرات السوريين الذين يدفعهم اليأس إلى ذلك، على حد تعبيره، لكنه يستدرك بأن المكتب الذي كان يعمل به لم يكن مسؤولا حتى عن وفاة شخص واحد، وليس كحال بقية المكاتب التي تلجأ إلى طريق البحر.
ويرى أبو محمد أن جل الشبان الذين قصدوا الأراضي الأوربية، هم من الشبان غير الراغبين بالعمل، مستندا في رؤيته على آراء الكثير منهم، ممن أوصلهم إلى الحدود البلغارية.
مصادر محلية من منطقة "اكسراي" في اسطنبول، أكدت لـ "عربي21" أن المنطقة باتت المحطة الأخيرة لآلاف من الشبان السوريين المتجهين إلى بلدان اللجوء الأوروبية، خصوصا وأن لا حل قريبا للمأساة السورية يلوح في الأفق.
وتعد الأراضي التركية نقطة عبور المهاجرين السوريين باتجاه القارة الأوروبية، عبر بلغاريا برا، واليونان برا وبحرا، كما تعد الأجهزة الأمنية في بلغاريا متساهلة إلى حد ما، عند مقارنتها بنظيرتها اليونانية، حيث تستخدم الأخيرة ورقة ضغط على الاتحاد الأوربي؛ للحصول على بعض المساعدات المالية.