كتب مالك التريكي: في زلة لسان فرويدية الأبعاد، قال ديفيد
كاميرون في أثناء الحملة الانتخابية إن هذه الانتخابات "سوف تحدد المستقبل". المستقبل الوطني؟ لا يا طيب القلب، بل "المستقبل المهني"!
زلة مزلزلة. إلا أن مرشح
حزب المحافظين، الذي فاز بانتخابات الخميس، كان من حدة الذكاء وحضور البديهة بحيث تدارك الأمر فورا، مصححا بأنها انتخابات "سوف تحدد مصير البلاد". صحح كاميرون مقالته مسترسلا بكل ما أوتي من ثقة نفس وفصاحة قول ظنا منه، على ما يبدو، أن هذا "الانزياح اللغوي" لن يؤخذ إلا مأخذ التلعثم العفوي.
ظن أن له ما يبرره. أولا، لأن مسألة "المستقبل المهني" وما يتصل به من رواتب وترقيات وسواها من "شؤون الموظفين"، لا يمكن أن تخطر على بال الحضور أو الجمهور في مثل هذا المقام. وثانيا، لأن الزعم بأن "مصير البلاد وقف على نتيجة هذه الانتخابات" كلام انتخابي معقول. بمعنى أنه كلام مكرور يطلق ويتوقع في كل انتخابات.
إلا أن السيف سبق العذل فانكشف المضمر: وهو أن كل هذه الجلبة الدعائية والصخب الإعلامي وضرب الأخماس في الأسداس منذ أسابيع، بل منذ أشهر، إنما هو من لوازم تحديد المستقبل المهني والوظيفي لبضعة أشخاص من الطامحين إلى السلطة. هذا هو كل ما في الأمر. رهان الانتخابات البرلمانية في أعرق الديمقراطيات، هو مجرد مسألة شخصية؛ مسألة تحسين وضع مهني.
إنها زلة لسان مزلزلة لثوابت الفهم السياسي العام. ولكن الحقيقة التي تكشفت عنها ليست بمدهشة أو بمفاجئة إلا لمن لا يزال مقيما على قديم الظن، بأن الانتخابات في الديمقراطيات الغربية هي مجال للمواجهة بين الأفكار السياسية والبرامج الحزبية. وما الأمر اليوم كذلك.
فقد تطورت قواعد اللعبة السياسية، منذ عقدين أو ثلاثة، باتجاه تقارب المواقف وتشابه الرؤى، بل باتجاه تساوي الخيارات تساويا هو بمنزلة انعدام الخيار. أما ما يجعل الوضع في
بريطانيا أسوأ فهو أن نظامها السياسي «منعطب» أو مكسور، باتفاق الجميع.
ذلك أن القانون الانتخابي القائم لم يعد مواكبا للواقع السياسي. قانون صمم للحسم بين متنافسين اثنين في ظل ثنائية الاستقطاب الحزبي (بين المحافظين والليبراليين حتى الثلاثينيات ثم بين المحافظين والعمال منذ الحرب العالمية الثانية)، على أساس الأغلبية البسيطة. ولكن الساحة السياسية أصبحت منذ سنوات متشظية بين ستة أحزاب أو سبعة، بما يجعل التحول إلى نظام التمثيل النسبي (على الطريقة الألمانية المتحفظة أو الإسرائيلية المتفلتة)، «ثورة» سياسية واجبة، تجرم الطبقة السياسية البريطانية إنْ هي تمادت في تجاهل وجوب القيام بها.
ثورة واجبة، ولكنها لا تعدو تعديل عقارب ساعة القانون الانتخابي لتمكينه من اللحاق بالواقع الحزبي، أي مجرد تحديث النظام الديمقراطي حتى يصير معاصرا للمجتمع! إلا أن الأحزاب التقليدية (بما فيها الحزب الديمقراطي الليبرالي الذي كان يناضل طيلة عقود من أجل الأخذ بنظام التمثيل النسبي)، لا تزال متشبثة بنظام الأغلبية البسيطة الذي يسميه البريطانيون، في استعارة من عالم سباق الخيول، نظام إسناد الفوز إلى «اول من يحرز قصب السبق»، حتى لو كانت النسبة التي يحرزها أول المتنافسين ضئيلة جدا، بسبب تشتت الأصوات في الدائرة الانتخابية الواحدة بين خمسة مترشحين أو ستة.
وهكذا فالمرجح أن كاميرون ـ تماما مثلما حدث في انتخابات العقدين الماضيين ـ سوف يستمر في حكم البلاد رغما عن أربعة من كل خمسة ناخبين، أي إن حوالي ثمانين بالمائة من المواطنين ليس أمامهم من خيار، سوى القبول القهري بأن يحكمهم في الأعوام الخمسة القادمة سياسي لا يريدونه.
حاكم «شرعي» لا دعم له إلا من خُمْس الناخبين!
وهذا لعمري ما كان ليخطر لفيلسوف بريطانيا الليبرالي جون ستيوارت ميل على بال أو خيال. كان يعتقد أن أكبر خطر محدق بالديمقراطية هو «طغيان الأغلبية»، فإذا ببريطانيا المعاصرة تثبت العكس: إذا أرادت بلاد أن تنتهي مدة صلاحية نظامها الديمقراطي، فما عليها إلا أن تقع، بحكم الإِلْف والعادة، في مأزق التسليم الدستوري بحتمية «طغيان الأقلية».
(عن صحيفة القدس العربي، 9 أيار/ مايو 2015)