قطعتُ سلسلة المقالات حول الشأن الليبي ولم أفعل من قبل على هذا الموقع المحترم، وذلك لشعور غريب اجتاحني ووقفة تأمل قوية انسلت مضامينها إلى أوراقي لتكون تعبيرا عن دهشتي.
إنها ردة الفعل تجاه تصريحات نقلتها صحيفة الـ "تلغراف" البريطانية في عددها الصادر بتاريخ 24 مايو الجاري عن أحد كبار قادة
الشرطة البريطانية، وهو مسلم بالمناسبة، أعلن وبكل ثقة أن المسلمين الذين توقفوا عن التبضع من محل "ماركس أند سبنسر" (M & S) الشهير، الذي تعود ملكيته إلى عائلة يهودية، يمكن أن يتحولوا إلى متشددين.
السيد "ماك تشيشتي"، الضابط الكبير في شرطة اسكوتلند يارد، يعتقد أن الشباب الذين هجروا شرب الخمر أو أحجموا عن اللباس الغربي، يمكن أن يصبحوا متطرفين، بل إنه تمادى في التخويف من ظاهرة التطرف بقوله إنه لا يستبعد أن يتحول أولاده إلى متطرفين بسبب الدعاية القوية للجماعات
الإرهابية.
وينقل الشرطي الكبير جزعه ويكشف عن عجزه وعجز جهاز الشرطة وعجز الحكومة بقوله، أن خطاب ورسائل الجماعات المتطرفة، أصبحت بالقوة والتأثير بحيث تجعل أطفالا في عمر الخمس سنوات يعتقدون أن الاحتفال بعيد ميلاد المسيح حرام في الإسلام.
وأول ما جال في خاطري وأنا أطلع ما لهج به الضابط البريطاني الكبير، هو الإحساس بأن عقول القادة السياسيين والأمنيين في الغرب لا تبتعد في تعاطيها - فهما وتفسيرا ومجابهة - مع ظاهرة التشدد عن عقول أولئك الذين يتربعون على كراسي الحكم، ويمسكون بزمام الإدارة الأمنية في بلداننا العربية، وأن ذكاءهم يتقزم، وحداثتهم تتلاشى فيسقطون في مهاوي سحيقة في تصريحاتهم كما فعل الضابط الشرطي البارز.
هذه التصريحات الغريبة تكشف عن مأزق المعسكر الغربي في مواجهة التطرف والإرهاب، فأن يصل التعامل مع الظاهرة بهذا التسطيح وهذا التهويل من ضباط كبار في جهاز عريق كجهاز اسكوتلند يارد، إنما هو تأكيد أن الظاهرة إلى اتساع وتمدد بسبب هذا التسطيح وهذا التهويل، بل إن سخفها يدفعنا إلى الاقتراب من نظرية المؤامرة، والقول بأنها تصريحات متعمدة لشيء في نفوس صناع السياسة الأمنية في
بريطانيا.
لقد تجلى لكل عاقل من غير المسلمين بأن التطرف والتشدد لم يكن نتاج الدين الإسلامي، وإن ساهمت تفسيرات بعينها للنصوص والشواهد التاريخية من بعض المفكرين الإسلاميين في الترويج للتشدد، فإن سياسات الغرب ومنهجه في مواجهة التطرف قادت بلا شك إلى استفحاله وانتشاره على الشكل الذي نراه اليوم.
لقد تأكد لكل مراقب أن شعار "الحرب على الإرهاب" كان ضمن استراتيجية مدروسة لاجتياح العرق وأفغانستان والدوافع تتعلق بعقائد "يهومسيحية" لا تقل تطرفا، ومصالح اقتصادية لثلة محدودة من المهووسين بالجاه والسلطان، وكان أن ألهبت المنطقة وساهمت في انتقال التشدد من مستوى إلى مستوى آخر أكثر تطرفا، وخسرت القوة العظمى الحرب وجرت أذيال الخيبة وعادت من حيث أتت.
ويبدو أن الدرس لم يُفهم والعبرة لم تصل، حيث يغرق العقل الغربي اليوم في تفسيرات غاية في السخف ويدور حول إدراك مشوه للظاهرة ولأسبابها ويخطئ في خياراته لاحتوائها.
وينطبق هذا النهج على الساسة وعلى جُل المثقفين، كما تنجر إليه معظم مراكز التفكير وصناعة السياسات والقرارات في الولايات المتحدة وفي الدولة الأوروبية، ولا يخطئ القارئ التعسف في تناول ظاهرة التشدد في المنطقة العربية، التي يتلبس بها شباب وشابات من العرب والمسلمين في أخبار الصحف الشهيرة في أمريكا وبريطانيا وفرنسا، والتقارير التي تنتجها مراكز البحوث والدراسات، وتلك التي تعبر عن أراء ومواقف الحكومات والساسة، وخلطها ومغالطاتها في تفسير الأحداث التي تقع هناك وهناك وتوصف بأنها إرهابية.
كما تتجلى الازدواجية المفضوحة عند التعامل مع حوادث عنف مشابهة، لكنها تصدر عن مواطنيين غربيين ضد مسلمين كما حدث في حادثة مقتل الشاب والفتاتين، ذوي الأصول العربية في الولايات المتحدة في نهاية العام المنصرم. كل هذا يكشف عن تخبط كبير يؤكد الفشل في التصدي للظاهرة أو احتوائها، بل يشكل أبرز عوامل استفحالها.