كتاب عربي 21

هيبة الدولة وهيبة السفارات

1300x600
بعد حملة مكثفة تحت وسم #وينو_البترول، تؤكد الشفافية في ملف الطاقة والنفط والغاز تحديدا، جاء رد وزير الصناعة التونسي محبطا للحد الأدنى من التوقعات.

عوض التفاعل إيجابيا على الأقل مع حملة بالأساس مواطنية، تؤكد مبدأ الشفافية ودعوة الدولة لترسيخ الثقة المهزوزة مع المواطنين، صرح الوزير بالأمس أن الحملة "مرفوضة"، ومبرره في ذلك اتصال عدد من السفراء به وتعبيرهم عن "قلقهم"، على حد قوله من الحملة.

بتصريح مثل هذا لم يعد من الواضح هل وزير الصناعة مسؤول أمام "قلق" السفراء أم أمام "قلق" شعبه. عندما يرفع سفراء أجانب الهاتف، على أهمية الدول التي يمثلونها، للتعبير للوزير عن "قلق" من حملة يقوم بها جزء من شعبه بوسائل سلمية وحضارية، وفي سياق تأكيد موضوع الشفافية، ماذا يمكن أن يجيب وزير في حكومة ناتجة عن انتخابات حرة نزيهة تعبر عن سيادة الشعب التونسي؟ يخرج للإعلام للتعبير عن هذا "القلق" كأنه واسطة بين السفارات وإعلام بلده؟!

ثم هل "يقلق" هؤلاء السفراء، إذا صح كلام الوزير، من ترسيخ مبدأ الشفافية الذي يعتمدونه في بلدانهم، بما في ذلك نشر العقود النفطية والغازية للاطلاع العلني والعام؟ أيضا إذا كان من المهم التواصل إيجابيا مع السفارات لجلب الاستثمار، أليست الشفافية مقوما أساسيا لجلب الاستثمار وطمأنة المستثمرين؟

أتذكر منذ سنة اتصال أحد المسؤولين الديبلوماسيين بي للتساؤل إذا ما كنا في حزب المؤتمر لدينا مشكلة معهم ومع استثماراتهم في تونس، بعد اعتراض نوابنا على التمديد لعقد شركتهم الغازية المشهورة دوليا.

أجبته أن ليس لنا مشكل مع الشركات الأجنبية، لكن لدينا مشكل مع الإخلالات في الشفافية والتمديد في العقود، وأن عقد شركتهم كان سيسقط لو تم المطالبة بتمديده في بلدهم.

مطلب التمديد كان محاطا بكثير من الأسئلة والإخلالات، وبسبب كل الأسئلة المحيطة التي أثارها تقرير دائرة المحاسبات سنة 2012 حول قطاع الطاقة بما في ذلك هذا العقد تحديدا، ارتأينا الامتناع عن التمديد حتى مديد التدقيق في الوضع.

وكانت الحكومة أذنت في سبتمبر 2013 بإنجاز تقرير لهيئة الرقابة المالية على مؤسسات معنية مباشرة بالتسيير العمومي للشأن الطاقي. وفعلا أكد التقرير عند إتمامه في أوت 2014 الاستنتاجات السابقة، بل عمق في تفصيلها. 

هناك غموض حول موقف الدول المعنية بهذا الملف، إذ رغم خطابها المكثف حول الشفافية خاصة في بلدانها ودعمها لمعايير الشفافية في دولنا، إلا أنه في الممارسة تبدو "قلقة" أحيانا من تفعيل ذلك عندما يتعلق الأمر بإخلالات تخص شركاتهم الاستثمارية، لكن المشكل الأكبر ليسوا هم بل نحن؛ إذ إن تعويدهم من الإدارة التونسية على عقلية التساهل المفرط، يرسخ ذلك المعنى. 

عندما قابل السبسي أوباما منذ أسبوعين قال: "نحن نحتاجكم أكثر مما تحتاجون إلينا"، هذا يلخص رؤية كاملة للاستثمار الأجنبي والتعاون الدولي لدى الإدارة وعدد من الأحزاب الأساسية في تونس.

الفكرة الأساسية هنا، نحن نحتاج استثماراتهم بشكل حيوي وهم يمكنهم الاستغناء عنا. بالإضافة إلى ما يكتسي هذه الرؤية من تحقير ذاتي، إلا أنها غير واقعية ولا تعكس موازين القوى فعليا. وبعد مرور أشهر من حكومة الائتلاف الرباعي تحت رعاية السبسي، أصدر حزبه ما سماه "عقد التنمية"، على أساس أنه مقترح لبرنامج حكومي، أكد فيه هذه الرؤية التي تتواكل أساسا على المستثمر الأجنبي وتعتبر من المقدسات. فهو معني بالطمأنة و"الحماية" و"التأمين" ولكن ليس بالشفافية. وما يبعث على قلق معدي الوثيقة في المقابل هو "توضيح" معاني "الفصل 13" في الدستور الجديد، الذي أقر معاني الشفافية والسيادة الوطنية في القطاع. 
 
إذ جاء في هذا "البرنامج" بالحرف في باب "إصلاح السياسات الطاقية والمنجمية" ما يلي: "إقامة علاقة ثقة مع المستثمرين في قطاع استكشاف وإنتاج النفط والغاز وذلك عبر: توفير تأمين العمليات وحماية المواقع الحساسة من الإنتاج؛  تنمية موارد الطاقة و تطوير البنية التحتية الوطنية لتسهيل نقل الطاقة من مواقع الإنتاج؛ إعادة مناخ الثقة في قطاع النفط والغاز من خلال توضيح الفصل 13 من الدستور بهدف توضيح الرؤية و شفافية الإطار القانوني ودعم استقرار النظام الجبائي للقطاع."

في المقابل لا توجد كلمة واحدة حول ترسيخ علاقة الثقة بين المواطن والدولة في تسييرها لهذا القطاع، وهو السبب الرئيسي لقلق المواطنين التونسيين، وليس "قلق" السفارات. 

هم يحتاجوننا مثلما نحتاجهم. ولكن أيضا حاجتنا إليهم لا تعني أننا لا نستطيع أن نعتمد أكثر على مقدراتنا الذاتية على تواضعها، وليس على منوال تنموي يعتمد أساسا وتحديدا السمسرة مع الشركات الأجنبية. الرضا الأجنبي لا يعني تنمية، أثبت ذلك نظام ابن علي الذي كان يحظى برضا أجنبي واسع خاصة من المؤسسات المالية الدولية.

كان من المؤسف أنه في الفترة ذاتها يطرح السفير الفرنسي خريطة الطريق "الواجب اتباعها" لطمأنة المستمثر الفرنسي والأجنبي عموما على حد قولها، التي تتضمن مثلا إعادة رسملة بنوك عمومية من المال العام بعد إنهاكها وإيصالها لحافة الإفلاس بسبب "رأسمالية المحاباة" من نخبة أعمال "الحاشية" زمن ابن علي، وتمتع هؤلاء الآن بـ"العفو".

وكان وزير المالية قد صرح أنه سيتم خوصصة جزء من هذه المؤسسات التمويلية العمومية عن قريب، ولن أستغرب إن كان من بين من سيشترون أسهما في هذه البنوك ذات الحاشية التي أدت إلى إفلاسها. السفير الفرنسي طرح أيضا إصلاح "مجلة الاستثمار"، وهي التي تعرضت لانتقادات من عدد من المستثمرين التونسيين. في المقابل وضمن نفس رؤية "لا تحتاجوننا بل نحتاجكم"، كان وزير الاستثمار والتعاون الدولي مهتما أكثر بعرض المجلة على دول أجنبية أكثر من مستثمرين محليين. 

نظرة الاحتقار الذاتي، خاصة بعد "ثورة الكرامة"، لا تصنع اقتصادا جديا أو استراتيجيا يتمايز عن المنوال التنموي الذي أنتج ثورة غاضبة، وإلا فسنبقى في "محلك سر".

والاقتصاد العصري يعني بالأساس حوكمة رشيدة وبالتالي، فطمأنة المستثمر الجدي والأفضل تقوم على الشفافية، ولهذا كان على وزير الصناعة خلق حملة "وينو البترول" حتى إذا لم توجد بالتحديد لطمأنة كل مستثمر يرغب في الاستمثار، في تونس أن هناك مناخا عاما يفرض على الدولة الشفافية.

وقبل هذا وذاك لا يمكن الحديث عن علوية "هيبة الدولة" إذا كنا نؤمن بعلوية "هيبة السفارات".