أجمعت التحليلات والآراء على أن «داعش» تلقى «ضربة كبيرة» بخسارته مدينة تل ابيض عند الحدود مع تركيا، التي قيل إنها كانت تشكل طريق إمداد حيوية له بالمقاتلين والسلاح، وإن «وحدات حماية الشعب» الكردية حققت «إنجازا ضخماً»، وأثبتت أنها حليف للأمريكيين في «محاربة الإرهاب» يعتمد عليه. لكن المحللين والمعلقين تناسوا حقائق واضحة تثير تساؤلات عديدة حول معركة تل ابيض كلها: أسبابها وتوقيتها ونتائجها.
أولاً، اعترف قادة من القوات الكردية التي دخلت المدينة بأنهم استولوا عليها دون جهد عسكري فعلي. وقال أحدهم إن «مقاتلي داعش انسحبوا دون قتال يذكر. كان انتصاراً سهلاً». وهذا يعني أن السكان المدنيين، ومعظمهم من العرب السنّة، الذين فروا إلى تركيا، إنما فعلوا ذلك ليس بسبب المعارك، بل نتيجة «تجاوزات» أقر مسؤولون أكراد بحدوثها في تصريحات موثقة.
ثانياً، لا بد من الإشارة إلى أن «داعش» لا يهرّب، بالطبع، الأسلحة والرجال من طريق المعابر الرسمية بين سورية وتركيا. ولو كان في حاجة إلى ذلك، لقام به عبر المناطق الحدودية غير المراقبة، التي تمتد مئات الكيلومترات بين البلدين. وإذا كان قادراً على اختراق شبكات الأمن الحدودية التركية مثلما يفترض المحللون، فهو بالتأكيد قادر على اختراق تلك التي سيقيمها الأكراد في المناطق التي تمددوا إليها.
أي أن تل ابيض ليست بالأهمية التي ألصقت بها، فالتنظيم المتطرف يمتلك من السلاح ما يفيض عن حاجته بعدما استولى منذ السنة الماضية على مخازن ضخمة للجيش العراقي في الموصل والرمادي مليئة بالأسلحة الأميركية، وبينها دبابات وآلاف الآليات العسكرية.
ثالثاً، تربط «وحدات حماية الشعب»، الذراع العسكرية لحزب «الاتحاد الديموقراطي» الكردي بقيادة صالح مسلم، علاقة وثيقة بـ «حزب العمال الكردستاني» بزعامة عبدالله أوجلان، المتحالف مع نظام بشار
الأسد ووالده من قبله. وسبق لهذه «الوحدات» أن تعاونت مع الجيش النظامي السوري الذي اخلى مواقعه في مناطق وجودها بين الرقة وحلب، ليسمح لها بإقامة نوع من «الحكم الذاتي»، هدفه الأساس مواجهة نفوذ «الجيش السوري الحر». حتى أنها دخلت في مواجهات عنيفة مع «الجيش الحر» ومع فصائل كردية أخرى انتقدت تعاون مسلم مع نظام الأسد واتهمته باغتيال معارضيه.
رابعاً، تفيد بيانات عسكرية كردية وأمريكية بأن «وحدات حماية الشعب» حصلت على غطاء جوي من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، وكان التنسيق واضحاً بين الطرفين. لكن هذه «الفاعلية» الأمريكية في «معركة» تل ابيض لم تظهر عندما تعلق الأمر بتقدم «داعش» في تدمر مثلاً بعد انسحاب الجيش النظامي منها بلا قتال، أو عندما حشد قواته لاحتلال الرمادي التي انسحب الجيش العراقي منها بلا قتال أيضا.
خامساً، ثمة دلائل ومؤشرات عديدة ومتكررة إلى أن «داعش» الذي يخوض معارك ضد فصائل المعارضة السورية في اكثر من جبهة، يرتبط بعلاقات استخباراتية واضحة بالنظامين السوري والإيراني، سهلت له التوسع في سورية والعراق، بهدف تأكيد ما يواصل حاكم دمشق وحلفاؤه ترديده من أن العالم سيواجه في حال سقوطه «تنظيمات إرهابية». وهو افتراض تتبناه الولايات المتحدة أيضا، وتقول إنها تخشاه لتبرير امتناعها عن تقديم دعم جوهري للمعارضة السورية.
لكن لماذا يضطر «داعش» المتعاون مع نظام الأسد إلى إخلاء مناطق خاضعة لسيطرته لتتسلمها قوات حليف آخر للنظام، أي «الاتحاد الديموقراطي» الكردي؟
السبب هو التقدم الميداني الذي حققته أخيراً قوات المعارضة، وخصوصاً الفصائل الإسلامية التي وحدت جهودها في جبهات درعا وحلب وإدلب، والذي أقلق الأميركيين المتمسكين عملياً ببقاء الأسد إلى حين الاتفاق مع الروس والإيرانيين على استبداله، بما لا يتعارض مع مصالح إسرائيل الحريصة على بقائه. ذلك أن واشنطن تعرف أن لتركيا دوراً في إنجاز هذا التنسيق المستجد في صفوف المعارضة، والذي يقال انه يلقى دعماً خليجياً.
ومع أن «داعش» كان منتشراً عند الحدود التركية، إلا أن أي عمل كان يمكن أن يقوم به كان سيضطر الأميركيين وحلفاءهم إلى مشاركة الأتراك في الرد عليه، أما أكراد «الاتحاد الديموقراطي» فلا يشكلون قلقاً سوى لأنقرة وحدها، ومنحُهم المزيد من الأرض والقدرات العسكرية قد يدفعها إلى فرملة سياستها السورية الجديدة التي تخطت «الحدود» الأميركية.
(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)