كان غياب آخر دبابة إسرائيلية عن أنظار مواطني القطاع الذين احتشدوا بكثافة بمحاذاة حدود
المستوطنات، بمنزلة جرس الانطلاق لمارثون فلسطيني مفتوح، نحو إمكانية الفوز بما يمكن الفوز به، من تلك الأشياء التي تركها المستوطنون، أو
الجيش الإسرائيلي على حدٍ سواء، حيث لم تمض ساعة أو بعض الساعة، حتى أصبحت تلك المستوطنات أثرا بعد عين، وصل الأمر في نهاية المطاف، حتى إلى تقطيع الإسفلت ونقله إلى أماكن آمنة، وكان الدال عليها، هو علامات قليلة لا يلمحها سوى المتمرسون فقط.
الشرطة الفلسطينيّة اضطرّت إلى تغيير موقفها، بشأن إعلانها عن أنها سيقوم بالتصدّي لأيّة أفعال غير منتظمة، من خلال إطلاقها جملة من التحذيرات، بعدم اقتراب المواطنين من حدود المستوطنات، وذلك للمحافظة على النظام العام، وللتحذير من نتائج قد تضر بهم، كأن تكون هناك أجسام زرعها المستوطنون، أو لوجود بقايا من مخلفات الجيش الإسرائيلي، لتترك كلّا في وجهته، إلاّ من بعض العراقيل الصغيرة، التي كانت مهمّتها توضيح بعضا من الهيبة فقط، لكن كان واضحا بأنها سلّمت أمرها إلى الله، بعد أن فشلت في إثباتها.
لم يكتفِ المواطنون باغتنام الأشياء المتروكة التي كانت موجودة بكثافة وفي كل مكان، بل قاموا بمحاولات الاستيلاء على الأراضي التابعة لتلك المستوطنات، باعتبارها أراضٍ حكومية – لا تزال مسجّلة باسم المندوب السّامي البريطاني - من خلال وضع أيديهم عليها، وذلك بعد معارك ومغامرات طاحنة بينهم أنفسهم، حتى أصبح بعضهم - الأقوياء – في عداد الإقطاعيين ولو إلى أجل قريب، في أعقاب بسطهم سيادتهم على حفنة من الأفدنة، بعد أن كان لا يتحصّل إلاّ على قليل من الأرض المسجّلة والمملوكة باسمه.
من داخل إسرائيل، وردت اتصالات متسائلة، فيما إذا بقيت المستوطنات كما هي؟ وكان الجواب كما يلي: للأسف (لا) لأنها لم تبقَ على حالها، إذ ليس هناك مجال للإنكار، لاسيما وأن الطائرات الإسرائيلية المسيّرة، التي ما كسلت برهة واحدة، عن التجوال في أعالي الجو، كانت تعرض صورا متحرّكة إلى العالم ساعة بساعة توضّح بجلاء قطعة الأرض المحترقة، فضلا عن جحافل الصحفيين الذين يصطحبون أطنانا من الكاميرات والمجاهر الرقميّة وعلى اختلافها، لأجل رصد الأحداث أولا بأول، فمنها ما ترصد أعمال الخراب والدمار، ومنها ما ترصد السرور الفلسطيني لبلوغ بعض من أمانيه، أو لجلاء المستعمر الصهيوني عن جزء مهم من أراضيه.
جميعها باءت بالفشل، عمليات الترقيع (الكسولة)، التي اتبعتها السلطة الفلسطينية، لأن تعود المستوطنات إلى سابق عهدها من العزّ والنماء، فبعد أن كانت تعول أكثر من 10 آلاف من المستوطنين اليهود الذين يشكّلون سكان تلك المستوطنات، ومثلهم أو أكثر من الفلسطينيين الذين يعتاشون منها، فهي لم تعُد تُدر أيّة دخول، لأنها ببساطة تم تحييدها، بسبب أنها لم تكن تشكل شيئا ذا قيمة لديها ولا لدى أصحاب المال الماكثين في شمال القطاع وتحديدا في محافظة
غزة، بسبب وقوعها في الجنوب، ولأن الجانب الزراعي بشكلٍ خاص، لا يحتل جزءا من مركز الشعور لديهم، كالجانب الصناعي الذي يمتهنونه منذ الأزل، أو كالجانب التجاري الذي يحافظون عليه بشدّة، مع أن هناك نسبة من صغار المستثمرين كانوا قد وصلوا بالفعل إلى العمل، لكن الحظ لم يحالفهم.
تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن أكثر من 90% من تلك المستوطنات، تقع في منطقة الجنوب (الفقيرة بلا حدود)، التي تبدأ من الأطراف الجنوبية لمحافظة دير البلح في الشمال إلى أطراف محافظة رفح الشمالية، وقد كانت أربع مستوطنات كبرى من مجموعة (غوش قطيف) تجثم على أراضي خانيونس- في الوسط – وهي (نيتسر حازاني، غانيه تال، نافيه ديكاليم، كاديد)، إضافة إلى بؤر استيطانية صغيرة (ترفيهية، تقع على شاطئ البحر، أو ما هي نقاط مصلحيّة يقيم عليها بعض الأفراد المستوطنين).
من الأمور اللافتة، أنه وبعد عشرة أعوام من استلامها في العام 2005، وعلى الرغم من إطلاق اسم (المحررات) عليها (ككل) بدلا من المستوطنات، إلاّ أنه لم يتم تغيير أسمائها لدى عامة الناس على الأقل، حتى خلال حكم حركة
حماس للقطاع، حيث لم يتم التطرق لهذا الموضوع بشكلٍ جدّي، كما لم يتم تكثيف عملية الترقيع، لأجل نهضة المنطقة على الأقل، وإن كانت هناك بعض المبررات القوية لديها، التي تتصل بالحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع وتداعياته، أو التي تتصل بعزوف المستثمرين عن الاحتكاك بها.
لكن تلك المبررات لم تكن فاعلة أمام الكثيرين من الناس، فضلا عن أنها لم تسلم من الانتقاد الحاد ومن تحميلها المسؤولية أيضاً، وسواء كان ذلك خلال هبوط الأسعار أو ارتفاعها، باعتبارها السبب في خسران المزارعين عند هبوط الأسعار ترتيبا على فيضان إنتاجها، وكسر المستهلكين عند ارتفاع الأسعار، لتعمّدها جفاف ذلك الإنتاج.
حتى في هذه الأثناء وبعد جولة بسيطة في داخلها، لا تُعتبر المحررات (ككل) مُجدية، لا لخزينة حماس ولا حتى لسكان الجنوب أيضاً، وبالمقابل، وعلى الرغم ممّا هي عليه من الشح والقلّة، فإن اليمين الإسرائيلي لا يزال مكلوما، بسبب حنينه لأرض إسرائيل، وبسبب فشله من نوال الهدف من تركه لها وانسحابه منها، وكما يقول زعيم اليمين في إسرائيل "نفتالي بينت" ألما وحسرة: بدلا من الشرعيّة، حصلنا على تقارير وسلسلة لا تنتهي من العمليات الميؤوس منها، وبدلا من الأمن حصلنا على صواريخ على مطار بن غوريون، وبدلا من التطوير حصلنا على دارفور.
وختاما، فإذا كان عزاء اليمين الإسرائيلي الوحيد في استفادته من خطة الانسحاب الشارونيّة، بعدم تكرارها مرّة أخرى في الضفة الغربية، فهل هو كافٍ، عزاؤنا نحن الفلسطينيين في جلاء الإسرائيليين عن القطاع، وسواء كان رغبة منهم، أو رغما عنهم؟