يجلس المرء تحت الشمسية ويتأمل سلوك الناس ويرى التخاجل سائدا والموج يكشف العورات والقوم في حيرة بين متعة
البحر وضرورة الستر وتطرح الأسئلة بمرجعيات متضاربة الحرية في السلوك في مقابل الورع الديني أيهما أسبق كدافع سلوكي في عالم منفتح على ثقافات بلا حدود جغرافية؟
العرب والبحر أية علاقة ؟
وجد العرب في تراثهم "علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل". كانت الخيل متاحة وفي نواصيها الخير معقود، والرماية ثقافة قوة واستعداد تدخل تحت باب واعدوا لهم لكن البحر كان بعيدا. لم يكن بعيدا جدا، كان يحيط بالخريطة العربية المسلمة من كل الجهات. لكن العرب أصروا على العيش على اليابسة أكثر من الاقتراب من البحر. فلم نجد في تراث البحر إلا القليل. مارسوا التجارة إلى بلاد التوابل واقتنصوا اللؤلؤ من البحار ولكن كانت مدنهم دوما بمنعة من البحر تحوّطا من الغزو ربما (هكذا ابتعد عقبة بالقيروان عن السواحل).
ورغم أن بناة المهدية اقتربوا من الساحل إلا إنهم صححوا خوفهم في القاهرة وطيلة التاريخ الإسلامي ما قبل غزو نابليون كانوا يفضلون اليابسة ويرون البحر خطرا أو على الأقل ليس مصدر للعيش الدائم والمتعة الحية الرائقة. بقيت الإسكندرية أهم مدن العرب البحرية (لأنهم لم يؤسسوها بل سكنوها) والعواصم الحالية المطلة على البحر كبرت بعد ذلك بما في ذلك تونس التي استلفت أحجار قرطاج لتبني مساجدها. ودار الصناعة بها كانت مرفأ حربيا لا غير تضاءلت أهميته بعد توقف الغزو البحري. وحتى الأندلس كانت حضارة زراعية والبحر لم يدخل في ثقافتها.
البحر حطم العرب وأخرجهم من الخريطة
من الأندلس انطلقت السيطرة الغربية على البحر، ومنه استعاد السيطرة على المتوسط، فضلا عن تملك طرق التجارة العالمية وتهميش مسارات تجارة العرب مع الهند وطريق الحرير. ركوب البحر ليس عربيا منذ 500 سنة. منه غُزوا ومنه احتلت أرضهم ولا تزال غير أن الغزو الحقيقي ليس حربيا بل ثقافي فالبحر صار ثقافة كاملة.
الشطوط المقابر
أطوف في تونس وأرى أن أجمل المواقع على البحر (الشطوط التونسية) قد اتخذت مقابر، والتندر الآن بها أن موتى تونس يعيشون أفضل من أحيائها لجهة التمتع بالهواء البحري الرائق في الصيف.
في المهدية اتخذ رأس البرج مقبرة للفاطميين المهزومين ثم لموتى الطواعين لاحقا. وفي المنستير (الرباط البحري الذي كان ديرا مسيحيا لرهبان منقطعين عن الدنيا ) توجد مقبرة في مكان من أجمل الأماكن البحرية وتحت رباط الحمامات المدينة السياحية الأشهر بنيت مقبرة تتمتع بهواء بحري منعش. في جربة الجزيرة نجد أوسع المقابر على ضفة البحر ويمكن أن نعدد الأمثلة لمن يعرف البلد إذ يجد أن الساحل (الشاطئ) مكان للهجر لا للعيش والمتعة. فحتى المتصوفة اختاروا غالبا شاطئ البحر البعيد لينعزلوا عن شؤون الدنيا وملاهيها. فاللهو ليس في البحر بل على البر أي على اليابسة.
التونسيون مع عرب كثر (ربما يختلف الأمر قليلا مع سكان سواحل الشام) لم يهتموا بالبحر كمصدر زرق وكمجال للمتعة ولا نجد السمك حاضرا إلا قليلا في وجباتهم وفي وصف الطعام (بلاد الرافدين اصطادت في الأنهار). التغيير الحقيقي تجلى مع قدوم غير العرب إلى بلاد العرب أولا الأتراك بصفتهم قوة بحرية غازية فرضت حروب البحر ثم القوى الغربية (فرنسا وإنجلترا وإيطاليا) التي استقرت أكثر وكشفت أن البحر في أرزاقا ومتعا سرعان ما تحولت إلى مادة استهلاكية تغري التجارة والاستثمار. وتفرض نمطا استهلاكيا جديدا.
البحر جزء من حياة العرب الآن، لكنهم مستهلكون جيدون فقط
وجبة السمك صارت وجبة رئيسية على المائدة التونسية (يمكن التعميم على العربية) تذكر العرب أن ميتة البحر حلال فأكلوها وعرف البعض منهم أن السمك يؤكل مع النبيذ الأبيض فتمتعوا ثم هجمت السياحة الساحلية فصار للبحر ثمن وصار له ثقافة.
السياحة الساحلية جعلت بلدا مثل تونس يطور بنية سياحية ساحلية واسعة ويخصص لذلك تمويلات ويوجه الاقتصاد في مجمله إلى هذا الاستثمار فصار ضمن أجمل الوجهات السياحية حول المتوسط وهناك فتح الاختلاط بين المحلي والوافد وصار مجالا لكشف الاختلاف في العلاقة مع الجسد وصورته التي تتجلى في العلاقة الحميمة مع الملبس. جدد العربي الرجل أولا صورة جسده وكثيرا ما باعها للمتعة(وهي نتيجة طبيعية ظهرت في كل الأماكن التي استثمرت في السياحة عامة والساحلية (الشاطئية خاصة).
تعري الرجل العربي في النزل (وفاز بذلك قبل المرأة التي حماها بفحولته التقليدية من هذا الاختبار) لبس القصير وتجاوز مفهوم العورة ثم تدرجت المرأة خلفه إلى نفس الأماكن ونفس السلوك ولم يعد وجودها في نفس الأماكن أمرا منكرا. بل ألبس لبوس التقدم السلوكي المستند على حريته الخاصة ضمن منظومة تفكير تحرر الجسد وتلبسه على هوى صاحبه لا على هوى المرجعيات الأخلاقية التي سبق أن انتمى إليها. بقي الأمر محصورا في النزل السياحية لفترة طويلة (رغم سينما الستينات الناصرية وجماعة دقوا الشماسي) لكنه خرج عن الحجر والسيطرة وتحول البحر إلى مكان مزار لا يمكن أن يمر الصيف دون تتخذ الأسرة التونسية له ميزانية ونظام اصطياف غير قابل للنقض. وهناك أعيد السؤال عن الجسد في مكان عام وعن حكمة التخاجل أمام الأعين المتفحصة.
الجسد المتاح
الجسد عامة والأنثوي خاصة متاح الآن على قارعة الطريق وهذه أكبر علامة على الغزو البحري الغربي لبلاد العرب، لقد غير علاقتهم بالمكان أولا فسكنوه وكبرت مدنهم البحرية وصارت مكانا مفتوحا وتوقف الاحتماء باليابسة من هول البحر.
تغيير عميق في الثقافة. لكن من موقع لم يختره الجسد. بل فرض عليه ضمن ثقافة السوق الاستهلاكية. الغربي دخل البحر وسبح فيه وتعرى على شاطئه ضمن ثقافة متحررة من المانع الديني. الذي كسرته ثورات الأنوار الفنية والذوقية. لا يعيش الغربي تناقضا قيميا في علاقته بجسده وبالفضاء المحيط. لذلك فهو لا يدين التعري ويصل إلى حد تخصيص أماكن للعراء الكامل.(بعد ثورة 68 الثقافية)، وعندما خرج من حدوده الجغرافية إلى مجالات الآخرين (المفتوحة لحريته وأمواله)ن لم يجد حرجا فهو في سياق تحرره الأصلي المكين داخل نظرته للعالم.
لكن العربي (ذكرا أو أنثى) تصنَّع ذلك، وعاشه بخلفيات مضطربة فلا هو حر كل الحرية ولا هو محافظ على منظومته المرجعية الدينية التي تحدد الحركة الجسدية والعلاقة بالفضاء العام. لذلك يحتار ويبدع حلولا ترقيعية تبدو من الغرابة بمكان مثل النزل الإسلامية التي لا تتعرى فيها المرأة بدعوى الحياء. وكذا الأمر في الشواطئ المنعوتة بأنها شعبية ترتادها العامة المحافظة وترى فيها نساء بجلابيب في البحر.
الجلباب في البحر يعاند المسار الغازي المنفتح، محاولا الحفاظ على الحد الأدنى من الحشمة(الماء يتكفل بتحديد معالم الجسم) ولكنه لا يعريه تماما. وفي بعض الستر كشف وإن تظاهر الجسد بالحياء.
الجلباب في البحر حالة دفاعية أخيرة أمام الغزو الذي لا يتوقف. وازدهار محلات بيع المايوه الإسلامي ليست أكثر من فرض تجارية تتذرع بالدين لمغانم يحرضها التخاجل والنزل الإسلامية حيلة أخرى. مثلها مثل الزي الإسلامي الملون ذي التخريجات على الموضة الحديثة. إنها محاولات تبدو لي يائسة لمعاندة مسارات الحرية السلوكية واجتهادات في الحد الأدنى. غير قادرة على قلب مسار التحرر الكوني الذي فرضته أولا البارجة الحربية ثم الغزو الاستيطاني ثم توجيه الاستثمار للسياحة.
تشبه المرأة العربية الآن التي تشربت ثقافة التمتع بالبحر وصار جزءا من مسار وجودها تطبيقا إعلاميا (freeware) تركب نفسها على برنامج استغلال(système d’exploitation) يشغل حاسوب الثقافة العالمية ويمكن له أن ينغلق على التطبيقات الحرة ويضعها في خانة الفيروسات.
هل يجب عليها أن تتعرى لتكون؟
نعرف أنه لا يمكن التعامل مع الثقافة بالقطاعي فهي كل شامل لذلك فتحرير الجسد يتم من داخل ثقافته. وليس من خارجها لذلك فان التمتع البحر الآن كثقافة وافدة سيحمل معه الكثير من التخاجل المرتبك ويفرض رؤيته للعالم وما نراه الآن لا يعدو أن يكون مقاومة فقيرة إلى المعنى. وهنا على القائلين بالإسلام هو الحل ويقدم نفسه بديلا لحكم العالم أن يستنبطوا نظاما جديدا للأشياء يرتب العلاقة بالعالم داخل الثقافة الأصلية. وأن يكفوا عن الإفتاء الشرعي بالتطبيقات الحرة ذات المدى القصير. وفي الأثناء على أهل الفتوى أن يتذكروا في تاريخ الأزياء أن الكشف أقل إثارة من الإخفاء.