قلّة من
اللبنانيين أبرزت استعدادها للنزول إلى الشارع تأييدا «لـحقوق المسيحيين» بالشكل الاعتباطي، الذي يطرحه العماد ميشال
عون في وجه الرئاسة السنية لحكومة ائتلافية يشارك بها تياره، وأقل منهم عددا من يمكن التعويل عليهم للنزول إلى الشارع في مواجهة قيادة
الجيش بعد توقيع وزير الدفاع على قرار تأجيل تسريح قائد الجيش (وهو منصب ماروني في العرف اللبناني) جان قهوجي، بدلا من الأخذ بمطلب «الحق العوني» بتعيين صهر الجنرال عون، العميد شامل روكز، قائد فوج المغاوير، قائدا جديدا للجيش. كذلك، يوحي تحذير عون «إياك يا قهوجي أن تنزل الجيش لمواجهتنا»، وتشطير قناة التلفزة التابعة له المؤسسة العسكرية بين «شبه جيش يدافع عن نظام وجيش قوي يحمي الوطن»، وإصرارها على أنه «لم يبق للبنانيين والمسيحيين إلا الأقدام»، بأنّنا أمام تجييش نافع للشارع، بقدر ما يوحي بأنها «انفعالية» محاصرة، من حلفائها قبل أخصامها السياسيين، محاصرة لكن.. غير معزولة، ولا ينبغي الخلط.
لا شكّ أيضا بأنّ عنصر الغضب، الجذّاب في حالة العماد عون بالنسبة إلى القاعدة المؤيدة له، زاد في الآونة الحالية عن الحدّ الذي يمكن لهذه القاعدة استيعابه، لاسيما وأنّ تيّاره على أعتاب انتخابات داخلية يتبارز فيها أقرباؤه وأصهرته لولاية العهد العونية.
لكن ذلك كلّه لا يلغي جملة أشياء ليسَ أقلّها أن عون ما زال الزعيم الأكثر شعبية في الوسط المسيحي، وأنّ شعبيته تستند بشكل أساسيّ إلى سلبية عميقة في الاجتماع المسيحي ضد «اتفاق الطائف» وما يمت إليه بذي صلة، وتأخذ غالبية المسيحيين الساحقة بالفكرة العونية القائلة إن «الطائف» سلب رئيس الدولة الماروني صلاحياته وأعطاها لرئيس الحكومة السني. وبما أن المنطق الطائفي هو إلى حد كبير منطق النكاية، فكلما تعرّفت القيادات السنية على حبّها للشراكة الوطنية في اتفاق الطائف، صار الطائف في الشعور المسيحي منافيا للشراكة.
وهذا يعني أن هناك بالفعل في البلد مشكلة مسيحية – سنّية ليست من اختلاق عون وحده، وإن كانت مشكلة تحوي مفارقة تاريخية. ذلك أنه لم يكن للسنّة دور في هزيمة عون، وبالتالي المسيحيين العسكرية، في نهاية الحرب اللبنانية، التي حسمت بمدفعية وطيران الجيش السوري. بل كانت شعبية عون في الأوساط السنية ملحوظة في نهاية الثمانينيات، يوم كان عون من حلفاء الرئيس صدام حسين، وإلى حين ازدهار شعبية خط الرئيس رفيق الحريري سنيا، في حين لم يلاق تهديف «مسيحيي الوصاية السورية» على الحريري والتيار السنّي الأكثريّ، والمبطن تحت عناوين منها «التصدي لمؤامرة توطين الفلسطينيين»، في التسعينيات، ذلك الصدى الجماهيري الذي نالته «اللاسنّية العونية» بعد العام 2005.
المشكلة المسيحية السنية ليست من إنتاج النوبة الممتدة «اللاسنّية» بين العونيين، الوريثة الناجحة لـ»اللاسنّية» المغلّفة بـ«اللاتوطين» في أيام إميل لحود ومسيحيي الوصاية السورية. طبعا، «اللاسنّية العونية» هي عملية حصر المشكلة المسيحية السنية في تفسير تآمري فظ، من نوع أن الوصاية بعد جلاء السوريين صارت سنّية، وأنّه جرى التآمر لمنع عون من «العودة بالجسد» إلى بيروت من منفاه الباريسي، وأنّ السنّة يعملون على إخضاع المسيحيين اللبنانيين، بناة الكيان، لأحكام أهل الذمّة، وأنّ السنّي المعتدل قناع للسنّي المتطرّف، في حين أنّ الشيعي المتطرف مستنير وحام للمسيحيين إن وقف في مواجهة السنّي المعتدل.
يبقى أن هذا التفسير التآمري والتهويمي جدا للمشكلة المسيحية السنية لا يلغي حيثية «موضوعية» لها، وعمق ما يظهر بشكل أوضح كلما زادت المكابرة عليها، سنيا، أو بين المسيحيين المناهضين لعون و«حزب الله».
وقد ظهر ذلك جليا مع آخر مشروع قانون انتخاب طرح في لبنان، ونال إجماع المسيحيين حوله، عونيين وقوات وكتائب، وأيّده بخبث سياسي «حزب الله»، وتصدّى له «تيار المستقبل». وهو المشروع الذي يقول بأن تنتخب كل طائفة نوابها على حدة، ما يعني لا يعود للسنة والشيعة والدروز دور مباشر في تشكيل أغلبية النصف المسيحيي من مقاعد البرلمان، بما أن «حزب الله» لا يستمد عناصر شوكته من حجمه التمثيلي في مؤسسات الدولة أو جهازها، بل أساسا من قوته العسكرية.
فلم يجد في قبوله هذا الطرح، الذي كان يعلم حق اليقين انه لن يمر، حرجا. و«القوات»، حليفة «المستقبل» في تجمع «14 آذار» لم يكن أمامها غير قبول هذا المشروع أيضا، ما ألحق ضررا بوجود تجمّع 14 آذار نفسه من يومها. لكن بالنتيجة، كل هذا أظهر مشكلة مسيحية سنية تتعلّق بمفهوم التمثّل السياسي، ابتداء من الانتخابات والبرلمان، وتصل إلى مشكلة الصلاحيات الدستورية بين رئيسي الجمهورية والحكومة، هذا في حين لم يعد هناك من رئيس منذ سنة وبضعة أشهر جراء المسلك التطييري لجلسات انتخابه، من ثنائي «عون – حزب الله».
ولليوم، يبقى الخيار محصورا بين نفي جماعات 14 آذار/مارس للمشكلة المسيحية السنية من أساسها، وبين تصوير عوني كاريكاتوري، تآمري، اعتباطي لها، يستفيد منه «حزب الله» بشكل نافر، من دون أن يستفيد عون رئاسيا من ذلك.
وفي حين كانت الأمور أقرب إلى انشطار المسيحيين بين «مسيحيي السنّة» و»مسيحيي الشيعة» قبل سنوات معدودات، فإنّ الإجماع المسيحي على تبني مشروع «لكل طائفة نوابها» أو ما عرف بمشروع «القانون الأرثوذكسي»، أدى إلى تعديل نوعي على هذا المشهد. لم يعد التزام سمير جعجع تجاه «السنّة» شبيها بالتزام ميشال عون تجاه «الشيعة».
وهكذا، فإن إعراض المسيحيين عن تلبية نداءات عون للمواجهة الميدانية، يرتبط إلى حد كبير بنجاح رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع بسحب فتيل التصادم العوني القواتي، ما صعّب الأمور أمام الغضبية العونية. فبدلا من أن تستثمر في المنازعة مع خصمها اللدود التقليدي داخل المناطق المسيحية، ومن موقع تجسيدها لفكرة ما عن «الدولة» في مواجهة «الميليشيا»، وجدت نفسها تصوّب مرة ضد تمام سلام، ومرة ثانية ضد جان قهوجي، بل ضد الفكرة العونية المزمنة القائلة إن «الجيش هو الحل».
يبقى أن شعبية عون معطى لا يمكن المكابرة عليه، وكلما جرت المكابرة عليه، خصوصا من الجهة السنية،حافظت هذه الشعبية على نفسها. الأكثر من ذلك، أن هجوم عون على قهوجي يضرّ بصورة عون كقائد سابق للجيش حتى بالنسبة إلى محازبيه. لكنه أيضا يضرّ بالصورة «المسيحية» لقهوجي إذ يتم تصويره كـ«جان السني» بعد أن صُوّر تمام سلام في الإعلام العوني كـ«داعشي»! شعبية شامل روكز و«مظلوميته الإدارية» هي أيضا معطى حساس ولا يمكن تغييبه، بل إنها من نوع يمكنه أن يقلق العماد عون نفسه، أو بالأحرى صهره المفضل وزير الخارجية جبران باسيل، الذي يخوض الانتخابات العونية الداخلية بدعم واضح من عمّه حاليا.
شعبية عون مزمنة. عمرها أكثر من ربع قرن. تقوم على الربط بين سلبية المسيحيين تجاه الطائف و«أحقية» عون بالرئاسة، بهالة ما كان للرئيس قبل الطائف. لكن شعبية روكز التي كانت مقرونة بأحقيته في تبوء منصب قيادة الجيش، وبكفاءته العسكرية لا سيما في مواجهة العصابات المسلحة على الحدود الشرقية، أمام تحدّ جديد بعد التمديد لقهوجي في هذا الموقع، وفي ظل استقطاب عوني داخلي حاد بين جبران باسيل من جهة، وروكز وألان عون من جهة ثانية. يبقى أنها اللحظة الفاصلة بالنسبة إلى روكز: فـ«قانون حفظ طاقته وشعبيته» يختلف عن حالة عمّه، والد زوجته، العماد عون.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)