تتصاعد أصوات المتظاهرين في بغداد ومحافظات الجنوب مطالبة بوضع حد للفساد المستشري كالسرطان بين ساسة ومسؤولي النظام
العراقي، ويرتفع سقف مطالب الناس من الكهرباء والخدمات إلى منع استخدام الدين غطاء لسرقة المال العام وإلغاء العملية السياسية كلها. فيتملك الخوف هذا النظام وداعميه، فيعلن رئيس الوزراء عن إلغاء بعض المناصب التوافقية سياسيا، ويطلق الوعود بقائمة إصلاحات طويلة زاد عليها رئيس البرلمان بقائمة أخرى دون أن يتوضح لأحد كيف سيتم تطبيق هذه الإصلاحات من قبل ذات المسؤولين المنغمسين بالفساد، الذي يدعي كل واحد منهم أنه يملك ملفا يدين المسؤول الآخر بتهمة الفساد.
وفي الوقت ذاته تزداد التفجيرات الإرهابية المستهدفة لحياة المواطنين، ويبدو مشروع الحشد
الشعبي مماثلا في مصيره للجيش العراقي ذي التدريب الأمريكي الذي كلف 37 مليار دولار، وخلت الساحة للميليشيات التي أصبحت "عريقة" وصلدة بالمقارنة مع الجيش والحشد والشرطة وبقية المسميات، لتعكس حجم كارثة الفساد الأمني وانهيار الدولة.
في هذا الوقت، أعلنت هيئة علماء المسلمين في العراق عن مبادرة تدعو فيها إلى " مشروع العراق الجامع"، واصفة إياه بأنه "الحل المناسب لإنقاذ العراق والمنطقة". تبين قراءة المبادرة (في موقع الهيئة.نت) أنها ليست وليدة اللحظة بل واحدة من عدة مبادرات سبقتها لعقد مؤتمر يضم " القوى المناهضة للمشروع السياسي القائم في العراق وللهيمنة الأجنبية عليه" منذ احتلال عام 2003، وهو العام الذي شهدنا فيه تأسيس هذه الهيئة أثر الغزو الأنكلو أمريكي عام 2003، من أكاديميين وخريجين في العلوم الشرعية وأئمة جوامع غير ضالعين في السياسة، لكنهم ارتأوا أن واجبهم الشرعي والإرشادي مقاومة الاحتلال وتبعاته، وأمينها العام الحالي هو د. مثنى حارث الضاري.
لكن السنين التي مضت بينت انعدام إمكانية استضافة مثل هذا المؤتمر من قبل الجامعة العربية وأي من الدول العربية، ما أعاق تلك المبادرات الهادفة لإحياء العراق موحدا شعبا وأرضا وهمّش القوى الساعية لها فيما بقيت الساحة مفتوحة للقوى المرتبطة بالعملية السياسية التي أسسها الاحتلال.
تأتي المبادرة، حسب نصها، في مرحلة يشهد فيها العراق "وضعا بالغ الخطورة" في ظل "دولة فاشلة"، مبنية على المحاصصة العرقية والطائفية، دفعت المواطنين إلى الانتفاضة إثر الانتفاضة منذ 25 / 2/ 2011 وحتى اليوم في ثلاث فورات سلمية تم قمعها بشتى السبل .
وتراوحت أسباب الانتفاضات ما بين الغضب على الفساد المالي والإداري وأشكال الظلم الموثقة في عشرات التقارير الحقوقية المحلية والدولية، والتي لم يعد الشعب قادرا على تحملها، بالإضافة إلى " توريط الشعب في حرب دموية لا ناقة له فيها ولا جمل، ينزف خلالها أبناؤه دما عزيزا".
لذلك تجد المبادرة أن الحل بعد تجربة مداها أكثر من ثلاث عشرة سنة يكمن في تغيير أسس النظام السياسي القائم، "وأي حل ترقيعي يبقي قواعد اللعبة السياسية القائمة الآن كما هي، ويبقي السياسيين على خطاياهم وأخطائهم لن يكون ناجعا بالمرة، وسيقود العراق والمنطقة إلى مزيد من الهاوية".
ما الذي تقدمه المبادرة؟
تدعو المبادرة، باختصار، على المستوى الداخلي إلى "لقاءات تشاورية موسعة وعقد سلسلة من الندوات الموسعة بين كفاءات ونخب المجتمع وقواه المدنية الفاعلة، وقادة الرأي، ومن ثم عقد مؤتمر عام للقوى العراقية المناهضة للمشروع السياسي القائم من أجل وضع رؤية مستقبلية شاملة تضمن بناء إرادة حرة للشعب العراقي، وتنقله من واقعه الحالي إلى واقع العمل السياسي الحر والمستقل من خلال ميثاق للعمل المشترك، يقوم على أسس الوحدة، واستقلال القرار العراقي، ورفض التبعية للخارج القريب والبعيد، وتعزيز السلم المجتمعي.
آلية التنفيذ هي: انتخابات حرة، بشروط تضمن نزاهتها ومشاركة العراقيين جميعا فيها، وتفرز ممثلين حقيقيين عنهم؛ لكتابة دستور يحقق آمال أبناء الشعب جميعا ويلبي طموحاتهم، ويضمن لهم التداول السلمي للسلطة".
أما على المستوى الإقليمي والدولي، فإنها تدعو إلى "تصحيح المسار الخاطئ في العراق" في إطار محددات أهمها: التمسك باستقلال العراق التام ووحدة أراضيه والمحافظة على هويته، واستناد سياساته في التنمية على المصالح المشتركة لمواطنيه، وبناء الدولة الحديثة وفق الأسس اللازمة لذلك: دستوريا وقانونيا واقتصاديا وأمنيا واجتماعيا وثقافيا، بالإضافة إلى الالتزام بالنهج التعددي وحرية الرأي.
تؤكد الهيئة أن المبادرة ليست رد فعل على التظاهرات الشعبية، على أهميتها، بل إنها نتيجة لقاءات ومشاورات استغرقت عدة شهور، وتم الإعلان عنها منذ شهور. إنها ليست قالبا جاهزا معدا لجمع التوقيعات والمنتفعين، بل تمثل سيرورة عمل قابل للنمو من مرحلة اللقاءات التشاورية إلى المؤتمر الوطني العام. ولكن، ما ضمان النجاح لمبادرة تنطوي على نقاط ضعف، أولها التشكيك بكونها جامعة لكل العراقيين، كونها صادرة عن هيئة دينية تمثل السنة، يحيطها الإعلام الرسمي بالتضليل، مهما كانت المبادرة ضرورية وتمثل المواطنين حقا ونوايا القائمين بها مخلصة للعراق؟
بعيدا عما اعتدناه من وعود سياسية رنانة، وبعيدا عن ادعاءات امتلاك عصا سحرية لتحقيق كل الطموحات وإجراء التغيير بين ليلة وضحاها، أكدت الهيئة في مؤتمر صحافي على حقيقة بسيطة، غالبا، ما يتعامى عنها الساسة إلا اذا ما جوبهوا بقرب زوال سلطتهم، وهي أن منبع التغيير الحقيقي هو الشعب والضمان الأكبر لتحقيق التغير هو الشعب أيضا. استنادا إلى الإيمان بأن الشعب ذاته ليس طائفيا. إن مراهنة المبادرة الأولى والأخيرة هي أبناء الشعب العراقي الذين لم يتلوثوا بالفساد والمحاصصة الطائفية ولم يفتحوا أبواب بلدهم للغزاة.
إنها ليست مبادرة فوقية، بل تتطلب لإنجاحها مساهمة الجميع. هكذا تصبح عملية التغيير عضوية من داخل المجتمع الأهلي والمدني ذاته، تبدأ بإزالة مخاوف الناس من الآثار التي قد تنتج عن التغيير وتطبيق العدالة لحفظ الحقوق بديلا للانتقام السائد الآن. هذه مسؤولية كبيرة ستطلق الأيام المقبلة حكمها عليها.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)