تواترت الشهادات في الفترة الأخيرة، ومن مصادر مختلفة
فلسطينية،
إسرائيلية ودولية عن موت حل الدولتين، أو اعتباره بات من الماضي، وغير قابل للتطبيق. فقد قال البلغاري نيكولاي ميلادينوف (منسق الأمم المتحدة للسلام أمام مجلس الأمن: "إن الحل يبتعد شيئا فشيئا عن الواقع، ودعمه يتضاءل في صفوف الإسرائيليين والفلسطينيين. فيما قال الرئيس الإسرائيلي روبين ريفلين ليديعوت أحرونوت (الجمعة-7 آب أغسطس): "إن الحل نفسه غير قابل للتطبيق، ولن يقبل به الفلسطينيون، لأنه يجسد دولة عظمى مقابل دولة أو كيان يتمتع بحكم ذاتي ناقص".
أما فلسطينيا، فتنهال التقارير عن نية الرئيس محمود عباس الاستقالة أو حتى حل السلطة ومؤسساتها، ووضع المفاتيح على الطاولة، وفق التعبير الدارج، بعدما يئس الرئيس عباس من التوصل لحل الدولتين عبر خيار التفاوض. فقد قال وزير خارجيته رياض المالكي لوكالة وفا الرسمية (الجمعة 7 آب): "إن السلطة اكتشفت في الفترة الأخيرة خيارات سياسية وديبلوماسية لا تقل أهمية عن الخيار التفاوضي". في إقرار واضح بفشل خيار التفاوض في التوصل لحل.
سياسيا، انهار حل الدولتين، أو يكاد أن ينهار فعليا في ظل تراجع القضية الفلسطينية عن جدول الأعمال الإقليمي والدولي. أما على أرض الواقع، فقد تواصلت خطوات تهويد القدس، وتعزز الاستيطان في الضفة، ليقضي ذلك على أي إمكانية فعلية لحل الدولتين. وكما قال موقع "واللا" السبت 8 آب: "قيام دولة فلسطينية أصبح ضربا من الخيال، مع استمرار الحكومة الإسرائيلية في سياسة الاستيطان والتهويد في الضفة، فقد تغير الوضع "الجيوسياسي" في نابلس ورام الله والخليل وبيت لحم وغيرها، والبؤر الاستيطانية والمستوطنات تحتل المزيد والمزيد من الأراضي، وبالتالي فإن قيام دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافي من الخليل إلى جنين، لم تعد فكرة عملية". غير أن الشهادة الأبرز جاءت من قائد جهاز الشاباك السابق يوفال ديسكيين حين قال: "إن المستوطنين، وبعدما أقاموا سلطتهم أو دويلتهم بدعم الحكومة والسلطات الإسرائيلية الرسمية، تسعى فئة أو مجموعة منهم الآن إلى تحويلها إلى دويلة دينية تحكم بالشريعة اليهودية".
إذن حل الدولتين انتهى، هو ميت سريريا، وهذا في أفضل الأحوال، وربما كان ولد ميت أصلا. وفي المقابل يتبلور على الأرض حل أو واقع جديد، ولو على المدى القصير والمتوسط، يتضمن دولة مزدهرة هي دولة إسرائيل، ودويلة للمستوطنين، هي كناية أو حالة من حالات الأبارتهايد، بينما تعمل قلة على تحويلها إلى دويلة تحكم بالشريعة اليهودية وسلطتان للفلسطينيين تتمتعان بالحكم الذاتي الناقص وتخضعان للاحتلال بشكل أو بآخر مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.
دولة إسرائيل مزدهرة اقتصاديا مع ميزانية كبيرة نسبيا، تصل إلى 350 مليار شيكل - لدولة صغيرة- مستقرة أمنيا مع بعض الهزات، ورغم الأزمات البنيوية العميقة، إلا أن قوة المؤسسة الحاكمة والنظام الديموقراطى المتبع، كما قوة الجيش، قادرة دوما على إيجاد الحل أو الحلول لتلك الأزمات، مع استفادة قصوى مما فعله الاستبداد في العالم العربي، خاصة في الحواضر الكبرى الثلاث: القاهرة، دمشق وبغداد، التي ترك فيها أرضا مدمرة أو مدمرة ومحروقة، بينما اتحدت بقاياه لإجهاض الثورات وإفشالها، وهي التي مثلت أملا في إخراج الدول العربية من واقعها المزري، وتشكيل ضغط جدي على إسرائيل، لإجبارها على الانصياع للشرعية الدولية ولو بحدها أو حدودها الأدنى.
أما دويلة المستوطنين فقد نشأت أساسا في الضفة الغربية وازدهرت بفضل دعم المؤسسة الرسمية بشقيها السياسي والأمني، والتجاوز المنهجي للأطر الديموقراطية والقانونية المعمول بها حتى داخل إسرائيل نفسها، وهي في جوهرها كناية عن دولة أبارتهايد، أو فصل عنصري وبعدما رسخت نفسها وأخضعت السلطة الرسمية لهيمنتها ومشيئتها، باتت مجموعة متنفذة تسعى لإقامة الشريعة اليهودية فيها، علما أنها، أي دويلة الاستيطان، كانت العامل الرئيسي وراء قتل حل الدولتين وإفراغه من محتواه.
هذا في السياق الإسرائيلي، أما في السياق الفلسطيني، فثمة سلطتان متنازعتان منقسمتان رغم أنهما خاضعتان للاحتلال بشكل أو بآخر، ولم تصلا بعد إلى مرحلة التحرر الوطني الكامل. سلطة الضفة ضعيفة، مستسلمة وعاجزة، تراوح في المكان، وهي أسيرة لخيارات سياسية فاشلة لم ولن تؤدي إلى أي شيء، وبات همها الأساس منع أي تغيير جدي، والحفاظ على الواقع الراهن بأي ثمن، وبكل ثمن، وهو للمفارقة هدف إسرائيلي أيضا، ونشأت أو خلقت في السياق منظومة أو شبكة مصالح ترى في السلطة، وحتى في الانقسام حاجة لا غنى عنها على المستويات المختلفة: الشخصية، الحزبية والسياسية.
سلطة غزة، من جهتها، ورغم خياراتها السياسية الصحيحة بشكل عام، إلا أنها تظل بنت أوسلو، وهي وقعت في عدة أخطاء تكتيكية، مثل عدم إنهاء الانقسام بأسرع وقت ممكن، كما الاستيلاب لفكرة عسكرة المقاومة، وتكوين جيش لها، وبالتالي خوض حروب تقليدية أو شبه تقليدية مع إسرائيل أدت إلى تدمير شبه كلّي لغزة، ثلاث مرّات في 5 سنوات تقريبا.
تلك الأخطاء التكتيكية كوّنت، رسمت أو ساهمت في رسم ملامح المشهد الاستراتيجي في غزة وفلسطين بشكل عام، حيث الأزمات المستحكمة، والحاجة إلى سنوات طويلة، وربما عقود للتعافي، والأهم أنها باتت في وضع دفاعي بشكل دائم، وعاجزة جديّا عن نجدة الضفة، أو حتى الانخراط في معركة استنزاف مع الاحتلال بوتيرة منخفضة ولكن متواصلة.
الواقع، أو المشهد سالف الذكر، سيستمر – للأسف - لسنوات، وربما لعقود، وإنهاؤه منوط بأداء فلسطيني وعربي مختلف، بمعنى السعي والعمل الجادّ والصادق لإنهاء الانقسام الفلسطيني وبلورة استراتيجية وطنية موحدة لإدارة الصراع مع الاحتلال عبر معركة استنزاف طويلة متواصلة، ولكن بوتيرة منخفضة غير عالية ولا تسمح لإسرائيل باستخدام الحد الأقصى من القوة ضد الشعب الفلسطيني، أما عربيا فمطلوب إفشال وهزيمة الثورة، بل الثورات المضادة في العالم العربي، وتأسيس دول عربية مدنية ديموقراطية لكل مواطنيها، وهذا سينعكس حتما إيجابا على فلسطين والمنطقة بشكل عام، لأن فقط دول أنظمة وشعوب حرة وحدها قادرة على توفير، أو المساهمة في توفير الحرية لفلسطين.
* كاتب فلسطيني