في ظل أزمة النفايات
اللبنانية الحالية، جرى حوار بيني وبين أحد الكتاب والناشطين السياسيين عن الدولة، وعن فشلها الجذري كوسيلة تنظيم، على المستوى النظري والعملي، وقد كنت كتبت في ذلك مراراً، ولكنه أثار نقطة أرى أنها جديرة بالنقاش وددت إشراك القراء بها والتعلم منهم. كنت كتبت على أحدى صفحات التواصل الاجتماعي أقول:
"في بلادنا دون سواها الدولة المدنية الحديثة، أي بنت فلسفة الحداثة منذ ثلاثة قون والتي تسيدت العلم في القرن العشرين، ما دامت بهذه الحدود، بهذه البنية الهرمية، بهذه الجيوش المركزية النظامية هي المشكلة لا الحل. فقد فشلت في التوفيق بين بنيتها وبنية مجتمعاتها، فلا استطاعت أن تحل محل القبيلة ولا أن تتعاون معها، ولا أن تحل محل الطائفة ولا أن تتعاون معها، ولا أن تحل محل الأمة الكبرى ولا أن تتعاون معها، وهلم جرا. لم تزد الدولة الحديثة التي بناها الاستعمار على شد ثوب هذه الكيانات والهويات الآصل منها والسابقة عليها، تنازعها وتهارشها وتناوشها بكثير جلبة وقليل فائدة. لذلك فلا بد من البحث عن وسيلة جديدة لإدارة السلم والحرب، تكون أكثر طبيعية وعضوية وتكون بالتالي أقل تكلفة ووطأة. لكل ثورة كبيرة طرح جديد في الفكر السياسي، وإن لم تطرح ثوراتنا نماذج أفضل مما كان متداولا قبلها فلن تستحق أسماءها.
فرد صديقي قائلا":
"المشكلة أننا لم نبلغ الدولة المدنية ولم نحققها لنجاوزها، لا سيما وإن شعوبا في شرق العالم وغربه وشماله وجنوبه تتمسك بها، وهي في ذروة إنتاجها الاقتصادي والمعرفي. أوافقك في حكمك وأسأل حول اقتراحك، لماذا نحمل نموذجا ناجحا نسبيا لدى غيرنا ووزر فشلنا؟ لم نتخط في دولة ما بعد الاستعمار الدولة العسكرية المركزية، وهذه لا مدنية ولا حديثة فكيف نستغني عما لم نجربه وقد نجحت تجربته عند غيرنا؟".
ورأيت أن سؤاله يستحق أن يجاب عليه في مقال، يشرك القراء في الحوار، فها هو:
أما قولك يا أخي الكريم "كيف نحمل نموذجاً ناجحاً عند غيرنا وزر فشلنا؟" ألم تسأل نفسك لماذا فشلنا جميعا على اختلاف مشاربنا الاجتماعية واتجاهاتنا السياسية، لماذا فشل القومي والشيوعي والإسلامي والليبرالي، في أن يقود هذا النموذج "الناجح عند غيرنا"، فينجح عندنا؟ أيعقل أن كل من حكموا العالم العربي منذ قرنين، كانوا مجموعة من المنحطين أخلاقياً فحسب؟ هذا إما أن يكون صدفة، والصدف لا تتكرر لعشرات السنين، وإلا لم تكن صدفا، وإما أن يكون علامة على فسادنا نحن كمجتمعات بحيث أننا مهما مدت يد القدر وانتقت منا حاكما كان فاسدا لا لشي إلا أنه منا وكلنا فاسدون. فأنت تريد تبديل الشعب وأنا أريد تبديل الدولة، لأن الدولة بالتعربف أداة في يد الشعب، ولا بد أن تطوع الإداة لصاحبها لا أن يعاد تصميم صاحب الأداة ليناسبها. إنك تعيد تصميم السيارة لتسع راكبها، لا تعيد تصميم الراكب لتسعه السيارة.
أما كون الدولة العربية التي أنشأها الاستعمار حديثة بالمعنى الفلسفي، فهي كذلك، حيث أن الافتراضات التي تقوم عليها افتراضات حداثية إنسانوية، ومنها أن الانسان مركز الكون وسيد مصيره، وأن العلم التجريبي وسيلة المعرفة، وأن المصلحة المادية أساس التنظيم السياسي، وأن العرق البيولوجي أو الإثنية اللغوية لا الاعتقاد الفكري هي أساس الهوية وترسيم الحدود...الخ. أما أنها مدنية، فهي كذلك من حيث بنيتها وأن تصادف أن كان على رأسها عسكريون أحيانا، فبيروقراطيتها الضخمة وقوانينها أغلبها مدنية، فالشعب يحكمه عسكروين مؤسساتهم مدنية، ولا يتلقى الشعب الأوامر تلقي الجنود لها، ثم إن المصطلح هنا يشير الى المدنية باعتبارها منسوبة الى المدينة لا الى القبيلة الأصغر منها أو الأمة الدينية الأكبر منها، وإلى المدنية بالمعنى المستقى من التاريخ الأوروبي الوسيط والحديث المبكر كنقيض للسلطة الكنسية والروحية. أما كونها نجحت عند غيرنا، فإن ذلك لا يقوم دليلا ولا مؤشرا لاحتمال نجاحها عندنا، لأن افتراض ان ما يسري على الجزء يسري على الكل، وان كان سليما في العلوم الطبيعية ودراسة المادة، هو افتراض غير سليم في دراسة الإنسانيات، فالبشر وثقافاتهم ليسوا جزيئات من مادة واحدة كالحديد. وأخيرا، حتى لو سلمنا جدلا بما تقول وبصلاحية نقل التجربة من شمال المتوسط الى جنوبه، فإننا سنواجه مشكلة عملية: الدولة المدنية القومية مرتبطة بحكم البرجوازية (منذ الثورة الفرنسية فصاعدا) والبرجوازية مرتبطة بنمط الانتاج الرأسمالي، وهذا يأكل فيه السابق إليه من يلحقه، لأن السابق إليه يسيطر على السوق ولا يُكسر احتكاره إلا بالقوة. فإن أردت دولة قومية قوية كان عليك ان تبني اقتصادا رأسماليا قويا، ولن تستطيع ان تفعل الا بمواجهة القوى المسيطرة على السوق، أي أنك لا بد أن تكون قويا من غير الدولة لتكون قويا بها، وهي كما ترى دائرة مفرغة من الناحية المنطقية. وهناك حلان، إما أن تنشء دولة لا تقوم على سيطرة الطبقة الوسطى البورجوازية على الاقتصاد، أي دولة اشتراكية، وكان هذا ما صنعه الروس والألمان وغيرهم، وإما أن تبقى الطبقة الوسطى حاكمة ولكن على أنماط تنظيم اقتصادية وسياسية تختلف عن اقتصاد السوق والدولة القومية الحديثة، أي أن تمارس الاقتصاد والسياسة خارج قواع اللعبة القانونية التي وضعتها القوى الرأسمالية والاستعمارية الكبرى لك. أما أن تواجهمم بمؤسسات مقتبسة منهم، مبنية عالى غرار مؤسساتهم، تتاجر بقوانينهم وتحارب بسلاحهم، فالأمل في نجاحك ضئيل. لذلك أقول لا بد من وسيلة للتنظيم الاجتماعي غير الدولة القومية وللتنظيم الاقتصادي غير الرأسمالية للحصول على القوة اللازمة للعيش، واللازمة حتى لمن أراد، لاحقا، ان يختبر صلاحية الدولة القومية غير الاستعمارية. أما في ضعفنا الحالي، فان كل محاولات بناء الدولة القومية لن تؤدي إلى شيء.
وقد مر حين من الدهر كان العرب يحكمون على دولهم بالفشل لعجزها عن تحرير فلسطين، واليوم تقف بعض الدول العربية عاجزة حتى عن جمع النفايات من عاصمتها، ويضطر الناس للتظاهر مطالبين بحياة كريمة وشوارع نظيفة، لا أكثر، فيكون الرد عليهم، كالعادة، بالغاز والرصاص. أيها الناس لا بد أن نجدد بديلا عن هذه الكوميدية السوداء ذات الأعلام والأختام والتي تخيم على بلادنا جميعاً من قرن من الزمان، وأوصلتنا إلى هنا.