القدرة على تجاوز الماضي بكل ما فيه يؤسس لحاضر أقوى وأكثر معرفة بالحال، لأن حالة الركود مرفوضة وهي نوع من التأخر الذي يحول دون أن نكون رقما صعبا يحسب له حساب في قابل الأيام.
التفكير في الواقع، والبحث في الماضي، ودراسة ما آلت إليه حضارات الأمم السابقة، ينطلق بنا إلى غد يتجاوز السقوط الحضاري الذي وقع به غيرنا ووقعنا به في واد سحيق حيث لا تخطيط، ولا تفكير في المستقبل، ورأس مالنا مقولة بائسة: (نحن أولاد اليوم) ولم نفكر يوما أن نكون من أولاد الغد لنواكب مسيرة غيرنا في التقدم والبناء.
الصوابية في النظر، تؤسس لخاتمة لا تكون (تعيسة) وخصوصا إذا أتبعت بخطوات عملية ضمن خطة عشرية أو يزيد.
قد يقول قائل إنك تقتحم بمقالك منطقة (ممنوع) دخولها، بل هو (غيب) أحرى أن تبتعد عنه، لكن أجدني مضطرا لاقتحام الساحة من أجل المساهمة في زيادة الوعي، والمضي قدما في جيل يرفض الانصياع لمبدأ التسليم دون إعمال الفكر.
المستقبل والخوض به، يقوي من عزيمة الفرد، ويجعله دائم التفكير في المالآت وفق خطة محكمة مبنية على التخطيط، والتعامل مع المفاجأة كواقع حال.
سأقتصر هنا على نصوص محددة كتبت في عام 1951 وتطبيقاتها العملية في 2014 وما بعدها أوضح من أن تشرح. أحيلكم جميعا إلى كتاب السلام العالمي والاسلام لمؤلفه سيد قطب ولن أطلب النظر في الكتاب كله، بل في الفصل الأخير منه والذي عنون له: (والآن...). هذا الفصل نشر في الطبعة الأولى من عام 1951، وتم حذفه في الطبعات اللاحقة، لأسباب معلومة.
في هذا (الفصل) تنبأ سيد بسقوط حضارتين: رأسمالية وشيوعية، أما الثانية فقد شاهدت الأجيال الراهنة سقوطها في التسعينيات، بانتظار تحقق النبوءة الثانية وهي انتحار الرأسمالية عله أن يكون قريبا من خلال المعطيات التي نراها على أرض الواقع.
نصوص مختارة.
نص أول:
وإذا كانت أوروبا تتلكأ في الاستجابة لأمريكا، فتؤجل بهذا التلكؤ موعد نشوب الحرب المطلوبة، فإنها لن تتلكأ طويلا، لأنها ستجد نفسها قريبا مدفوعة إلى الحرب بالأسباب نفسها التي تدفع أمريكا
نص ثان:
(العرب ومواردهم وقود الحرب الأمريكية: أن هذه الكتلة "يقصد الرأسمالية" تريد أن تضمنا إليها لتستطيع أن تجند من العرب وحدهم مليونا كما ورد في بعض البرقيات؛ ثم لتتخذ من بترولنا ومواردنا الغذائية، ومواقعنا الإستراتيجية عدة للنصر في المذبحة العالمية المنتظرة؛ وبخاصة بعد تلك الصفعة القاسية التي أصابتها في الهند الصينية وما تزال تترنح منها).
نص ثالث:
(وإذا كان فينا من يحسن الظن بأمريكا، ويظن أن سيطرتها ستحد من شر الاستعمار، فلينظر كيف تقف أمريكا في صف هذا الاستعمار، وكيف تمده بقوة الحديد والنار عند الاقتضاء. على أنني أعيذ البشرية أن يستبد بها الصلف الأمريكي السخيف، الذي قد لا يقاس إليه الصلف البريطاني ذاته في أرض المستعمرات. إن هذا المعسكر لا يبغي لنا الخير، ولا يطيق أن تكون لنا فيه كرامة، إنه يريدنا جنودا له أوعبيدا، لا أن يكون لنا وجود ذاتي وكيان محترم!)
نص رابع:
(إن المعركة في صميمها ستدور في أرض غير أرض الكتلتين. ستدور في تركيا وإيران والعراق وسوريا، ومصر والشمال الأفريقي. وفي باكستان وأفغانستان. وفي منابع البترول الإيرانية والعربية في عبادان والظهران... إنها ستدمر مواردنا نحن، وتحطم حياتنا نحن، وتدعارضنا بقعا خرابا يبابا. وسواء علينا انتصرت هذه أم انتصرت تلك، فسنخرج نحن من المعركة فتاتا وحطاما. لا كما خرجت أوروبا من الحروب الماضية، ولكن كما لم تخرج أمة من حرب قط).
نص خامس:
(خلاصنا في بروز كتلة ثالثة لا شرقية ولا غربية: أن طريق الخلاص هو أن تبرز إلى الوجود من أرض المعركة المنتظرة كتلة ثالثة تقول لهؤلاء ولهؤلاء: لا! إننا لن نسمح لكم بأن تديروا المعركة على أشلائنا وحطامنا. إننا لن ندع مواردنا تخدم مطامعكم، ولن ندع أجسادنا تطهر حقول الغامكم، ولن نسلمكم رقابنا كالخراف والجداء).
نص سادس وأخير:
(ولقد آن للشعوب أن تضع حدا لذلك العبث الآثم الذي يزاوله حكامها والمستغلون فيها؛ وأن تقرر مصائرها بأيديها، وتقطع كل يد تعبث بهذه المصائر لغاية خاصة لا تعني هذه الشعوب).
النصوص أوضح من أن أعلق عليها أو أشرحها.
أختم بالقول: يظن بعض المتأسلمين أن النظر صوب المستقبل أثم، وهذا فكر رجعي تأخري، استشراف المستقبل يا سادة يا كرام، يا احزاب، يا جماعات، يا جهات، يا مؤسسات: صعود للقمة وفكر متجدد لنرى الأفق وما يخبئه القدر.