كتاب عربي 21

روشتة صندوق النقد والسم القاتل

1300x600
هل لك أن تسأل نفسك في حال ذهابك إلى طبيب أعطاك وصفة طبية أدت إلى تدهور صحتك، هل من الممكن أن تكرر الزيارة ذاتها مرات ومرات، رغم أنك قد رأيت كيف تدهورت صحتك، وقل أداؤك، وازدادت متاعبك، فلم تعد قادرا على مواجهة أعباء الحياة، ولا حتى أعباء عائلتك؟

هذا ما جرى من مفاوضات بين مصر وصندوق النقد الدولي خلال نصف القرن الأخير، ففي السبعينيات جرت مفاوضات بينهما كان قد رأس حينها وفد مصر الدكتور محمد زكي شافعي وزير الاقتصاد خلال الفترة 1975-1976، الذي نقل إلينا رفضه لبرنامج الصندوق للإصلاح الاقتصادي، بل كاد يشتبك بالأيدي مع مسؤولي الصندوق مما رآه من إجحاف في تطبيق برامج الصندوق، فما كان من السادات إلا أن أقاله وعين بدلا منه عبد المنعم القيسوني خلفا له.

 ولذلك اتخذ قرارات يناير الشهيرة، التي وصفها كما العادة بـ"الضرورية والحاسمة" التي رفع من خلالها الدعم عن مجموعة من السلع الأساسية، منها الخبز والسكر والشاي والأرز والزيت والبنزين، و25 سلعة أخرى، وارتفعت الأسعار حينها نتيجة ما حدث بنسبة 30 إلى 50 بالمئة. 

ونتيجة لهذه القرارات التي أملاها الصندوق على الحكومة، جرت أحداث 18 و19 يناير عام 1977، فما كان من السادات إلا أن فرض حظر التجول، وأمر الجيش بالنزول إلى الشارع للسيطرة على المظاهرات. 

ثم أعقب ذلك مفاوضات أخرى في الثمانينيات ثم في التسعينيات، في أعقاب اشتراك مصر في حرب الخليج الثانية، وثمنا لدخول مصر في قوات التحالف تم خصم 50 بالمئة من الديون التي على مصر، بالإضافة إلى إلغاء الديون العسكرية المستحقة للولايات المتحدة بمبلغ 14.1 مليار دولار. 

وقد اشترط لذلك أن يتم إسقاط الديون على ثلاث مراحل، شريطة أن تلتزم مصر بشروط الصندوق، التي تمثلت في بيع القطاع العام، وتصفيته كاملا، وإلغاء الدعم، فضلا عن جعل سعر الجنية وفق قوى الطلب والعرض، وهو ما يدفع الجنية إلى الانهيار، ونتيجة لذلك تم تشريد ملايين العمال وطردهم من الشركات المنتجة، وتم بيع الشركات بأبخس الأثمان، ورفع الدعم عن العديد من السلع الأساسية والتعليم، وإلغاء العلاج المجاني في المستشفيات، فانهارت منظومة الصحة في مصر.
 
ويمكن النظر إلى بعض المعطيات الصغيرة التي تؤكد ذلك، فقد أثبتت الأيام فشل الخصخصة، فما أعلنت عنه الحكومة من بيعها للقطاع العام الخاسر، إلا أنها قامت ببيع القطاع العام الذي كان يحقق أرباحا وصلت نحو 100 بالمئة من أصوله. 

فقد أوردت جريدة اليوم السابع المؤيدة للانقلاب ما نصه "كان المطروح للبيع 314 شركة لم يتجاوز الخاسر منها سوى 60 شركة فقط. 

وبالرجوع إلى الأرقام التي كان من المقدر أن تباع بها شركات القطاع العام، نجد أن البنك الدولي وعددا من الهيئات العالمية قدّرت قيمة شركات القطاع العام بمبلغ 500 مليار جنيه، كما قدّر مركز الأهرام للدراسات الاقتصادية وبنك الاستثمار القومي قيمة الشركات ذاتها بمبلغ 500 مليار جنيه. 

ومع ذلك فقد تم بيع 241 شركة من إجمالي 314 شركة، بحصيلة بيع 16مليارا أو 741 مليون جنيه". 

ولك أن تعلم أن العمولات التي حصل عليها المشرفون من عملية البيع بلغت 33 مليار جنيه، أي أكبر من الحصيلة التي دخلت موازنة الدولة، ناهيك عن تشريد ملايين العمال، وخروجهم إلى المعاش المبكر. 

أما وضع الجنية المصري، فلم يعد يخفى على أحد مدى الانهيار في قيمة الجنية، والتدهور في الصادرات، وتزايد العجز في الموازنة العامة للدولة. 

على أي حال، فإن اتباع روشتة الصندوق مرة أخرى هو وقوع للاقتصاد القومي في أيدي شلة من المحتكرين للثروة وأدوات الإنتاج، وهي بطبيعة الحال ستزيد من الفقر في مصر، والتدهور في مرافق الدولة كافة، التي تبشر بثورة جديدة.

وفي الأسبوع الأخير، جاءت بعثة صندوق الدولي لتقول للحكومة أنتم على الدرب الصحيح، ألغوا ما تبقى من الدعم، وخفضوا الجنية مرة أخرى بحجة تحقيق توازن السوق، والحكومة والصندوق تعلمان علم يقين بأن تخفيض الجنية سيرفع الأسعار بلا شك.

فسياسة الصندوق هو سم قاتل، قد تم تجريبه من قبل في الأردن والمكسيك والأرجنتين، وأخيرا في اليونان، وهي تعدّ أكبر مثال أمام أعيننا، فقد انهارت اليونان، وزادت المديونية، فكان الهدف الأول للصندوق هو دمج الاقتصاد المصري في الاقتصاد العالمي. 

ومن هنا، فإن الاقتصاد المصري سيتأثر بأي رياح عاتية تأتيه من الخارج، فستصبح مصر هي سوق واسعة لكل إنتاج، سواء أكان جيدا أم رديئا.. والإنتاج الصيني ليس عنا ببعيد. 

فلا بد من أن تعاود الدولة فتح الباب للفرص الإنتاجية للمصريين، وهذا لن يكون مع حكومة انقلاب على الإطلاق، فكل ما تستطيع عملة هو الاستعانة بالخارج من دعم وإعانات، أو شحاتة، دون خجل أو مواربة. 

وهذه الحكومة "لا تفرق معها" إن كانت تذهب إلى طبيب فاشل يعطيها سما قاتلا يدمرها، فالمهم عندها هو رضا الصندوق، ومن وراء الصندوق.