"أهلا بكم في المستنقع السوري"، يقول أحد رجال وزارة الدفاع الأمريكية، تعليقا على أولى عمليات القصف الجوي التي نفذتها القاذفات الروسية في
سوريا؛ "العزاء لكم، ولحلفائكم في
قندوز"، يجدر أن يردّ عليه أحد رجال وزارة الدفاع الروسية، تعليقا على سقوط أوّل مدينة أفغانية كبرى في قبضة الطالبان، للمرّة الأولى منذ 14 سنة. ولن يتغيّر كثيرا جوهر هذا التراشق اللفظي الأمريكي ـ الروسي، إذا اتضح أنّ حصيلة عمليات الـ"سوخوي 24" هي سفك دماء 36 مدنيا سوريا، بينهم خمسة أطفال؛ وأنّ القتال في قندوز يأخذ الآن صفة الكرّ والفرّ، ولا يبدو حسم المعركة جليا. ثابت، مع ذلك، أنّ قطبَيْ الحرب الباردة السالفة لا ينويان استئنافها بالشروط القديمة، خاصة وأنّ أجنداتها داخلية بالنسبة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (في ضوء مباركة من الكنيسة الأرثوذكسية، لها رنين صليبي لا يخفى)؛ وأنّ سيد البيت الأبيض مستقيل من خوض غمارها على أيّ نحو، وسلفا أيضا!
لكنّ سقوط قندوز، عاصمة الشمال وخامسة المدن الأفغانية، يتوّج سيرورة عسكرية لم تتوقف منذ سنة 2007، عمادها نجاح الطالبان في قضم مساحات متتالية من القرى والأراضي، ضمن زحفهم إلى الشمال.
ثمة ثلاثة أسباب وراء هذه النجاحات، يساجل الأمريكي جيسون ليال، الأخصائي في الشؤون الأفغانية: 1) الفساد المحلي، في مستوى الميليشيات القَبَلية، وكذلك عناصر أجهزة الشرطة الذين درّبتهم الولايات المتحدة؛ 2) ضعف الدولة وارتخاء السلطة المركزية، بحيث يؤول الحكم الفعلي إلى أمراء الحرب؛ و3) الصراعات بين زعماء القبائل والمجموعات الإثنية المختلفة، خاصة بين البشتون/ الطاجيك، والأوزبك. وبهذا، حتى لو نجح أيّ تحالف عسكري من السلطة ومسلحي الميليشيات في استعادة قندوز، فإنّ مشكلات الإقليم بأسره سوف تبقى عالقة وآخذة في التفاقم.
وهذه ـ على نحو أو آخر، في قليل أو كثير ـ مرآة للحال العامة التي تشهدها أفغانستان الراهنة؛ والتي تعيد الذاكرة إلى خريف 2001، عقب الغزو الأمريكي للبلد، حين لاح أنّ عودة الموسيقى إلى شوارع كابول، ومسارعة الشبان إلى قَصّ اللحى، وتهافت أبناء القبائل على تبديل الولاءات والبنادق من صفّ إلى صفّ ومن كتف إلى كتف… هي أوضح علائم انتصار الولايات المتحدة في أولى جولات "الحرب ضدّ الإرهاب"، كما قيل لنا آنذاك. ورغم أنّ عودة الموسيقى إلى آذان الأفغان ليست بالأمر التافه، بالطبع، غير أنّ المرء لم يكن ينتظر من أمريكا، ومن حلفائها في الحلف الأطلسي، شنّ حرب وتنفيذ غزو عسكري، إحياء لغاية ثقافية مثل هذه!
ثمة، إذا، عمل كثير كان ينتظر غزاة أفغانستان، كما بشّروا هم أنفسهم، عندما وعدوا أهل البلد بمستقبل زاهر وزهري. وأمّا في حقائقه الفعلية، فقد كان ذلك العمل يبدأ، بالضرورة، من إعادة إنتاج ورطة الجيش الأحمر السوفييتي هناك: مستنقع حروب العصابات، وحروب الطوائف، وحروب القبائل. ذلك لأنّ أفغانستان تلك الحقبة، مثل معظم خصائص أفغانستان ما بعد حكم الطالبان والكثير من خصائصها اليوم، لم تكن تبدو مختلفة كثيرا عن أفغانستان ما بعد انسحاب السوفييت في عام 1989. إنها، بصرف النظر عن مظاهر الشكل، إمارات مبعثرة قائمة على الولاءات الإثنية والقبائلية، أكثر من الخطوط الإيديولوجية والتيّارات الحزبية؛ وعلى تجارة المخدّرات والسلاح، أكثر من أيّ اقتصاد وطني أو حتى عائلي.
وهكذا فإنّ الأسئلة القديمة واصلت إعادة إنتاج نفسها تباعا، وكأننا نعيش مرحلة ما بعد انسحاب الاتحاد السوفييتي وسقوط نظام نجيب الله: أيّ أفغانستان كان يريد "العالم الحرّ" بعد سقوط نظام الطالبان؟ وأيّ أفغانستان يريد اليوم، إذْ تعود مجموعات الطالبان إلى الواجهة مجددا، ليس من بوّابة الأمن والحرب فحسب، بل من بوّابة المعادلات السياسية الداخلية؟ وكيف لا يجيز المرء الرأي القائل بأنّ حوارات الكواليس مع الطالبان، حتى عن طريق وسطاء، هي بمثابة إقرار صريح بأنّ الذي يمسك بأقوى أوراق المشهد الداخلي هم الطالبان؛ وليس "تحالف الشمال"، أو أيّ من أحزاب أو ميليشيات أو قبائل البشتون والطاجيك والأوزبك والهزارة؟
وما دامت معظم المجموعات القبائلية والإثنية قد فشلت، أو تعثرت مرارا على الأقلّ، في الارتقاء إلى مستوى الحدث ومسؤولياته؛ فما الذي سيصون أفغانستان من مخاطر انقسام الأمر الواقع، وفق خطوط مناطقية ومذهبية، تُجهز على ما تبقّى من وحدة البلاد؟ وكيف يمكن للانشطار السنّي ـ الشيعي أن يؤثّر على العلاقات الإيرانية ـ الباكستانية خصوصا؟ وأين ستقف الولايات المتحدة، والقوى الغربية عموما، من مسألة تقسيم واقتسام النفوذ الإقليمي بين
روسيا والصين والباكستان وإيران والهند وتركيا الجمهوريات الإسلامية المجاورة؟ وما مصائر استراتيجية الرئيس الأمريكي أوباما، في الخروج الأمريكي "الآمن" من أفغانستان؟
هذه مآلات قد تبدو، للوهلة الأولى فقط، وكأنها تحثّ بوتين على أن يفرك يديه اغتباطا بما انتهت إليه الولايات المتحدة، خصم الاتحاد الروسي في نهاية المطاف؛ لولا أنّ تبصّرا عقلانيا بسيطا سوف يقود الكرملين إلى الاتعاظ، أكثر بكثير من أيّ اغتباط، قبل ارتكاب حماقة تجريب المجرَّب، في سوريا تحديدا.
صحيح أنّ اللاذقية ليست قندوز ثانية، ولا سوريا نسخة أخرى من أفغانستان؛ ولكن روسيا قد تنزلق إلى مآزق ذات طبيعة مماثلة، تنتهي إلى مآلات مستنقع الجيش الأحمر، ثمّ الوَرَثة من بعده. وفي هذا، ليست بدون معنى استطلاعات الرأي التي تشير إلى أنّ غالبية المواطنين الروس تعارض الاشتراك في مساندة نظام بشار الأسد (إذْ أنّ أكذوبة "محاربة الإرهاب" لم تنطلِ حتى على الحمقى)؛ وكذلك تشديد بوتين على أنّ روسيا لن تقاتل على الأرض، وستكتفي بالدعم اللوجستي والقصف الجوي.
أمّا على المستوى الشعبي السوري، وما خلا حفنة من الأتباع والمخبرين الذين أُرسلوا إلى مطار حميميم لاستقبال العسكر الروس بالورود؛ أيّ سوري سوف يقبل بطراز من الوصاية العسكرية الروسية، أقرب إلى الاحتلال والانتداب؟ وما دامت الكنيسة الروسية الأرثوذكسية قد أعطت الكرملين مباركة دينية تعيد الحروب الصليبية إلى الأذهان، فما الذي سيمنع أمثال "جبهة النصرة" و"أحرار الشام"، قبل "داعش" في الواقع، من امتطاء الموجة الدينية ذاتها، وتحريض المسلمين شرقا وغربا (وداخل روسيا أيضا، وأبعد من بلاد الشيشان) ضدّ هذه الحملة الصليبية الروسية؟ ألم يتنبه العبقري سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، إلى أنّ أصحابه من فصائل المعارضة السورية، كافة تقريبا، لم يجتمعوا على أمر منذ انتفاضة آذار (مارس) 2011، مثل اجتماعهم على توصيف التورط العسكري الروسي في البلد؟
وإذا جاز الافتراض بأنّ البنتاغون، تمسكا بـ"عقيدة أوباما" إياها، لن يرفع سوية تسليح المعارضة السورية المسلحة، أو فصائل "الجيش الحرّ" مثلا؛ فهل يضمن الكرملين أنّ هذا الخيار لن يتبدّل، أو يتزحزح قليلا، على نحو يطيب للاستخبارات المركزية أن تعيد إنتاجه، قياسا على نجاحات "شركة الجهاد العالمية" في أفغانستان الثمانينيات؟ وهل يضمن بوتين أنّ أطراف رعاية الفصائل المعارضة، في تركيا والخليج أوّلا، ثمّ على مستوى منابع التمويل السلفية الكونية ثانيا، لن ترفع سوية التسليح من جانبها، وبما يقضّ مضجع غزاة اللاذقية الروس، أبناء وأحفاد "الجيش الأحمر" المنهزم في أفغانستان؟
وأن يلجأ الكرملين إلى تجريب وصفة مجرَّبة، ثبت فسادها؛ أليس هذا مما يحرّض أوباما، بدوره، على فرك اليدين… اغتباطا؟
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)