كانت الهجرة النبوية بداية تأسيس المجتمع الحضاري، مجتمع الحرية والعدالة والمساواة والانتصار لكرامة الإنسان الذي صادرت الجاهلية جميع حرياته بما فيها حرية الضمير والإيمان.
لقد قرر صاحب الرسالة صلى عليه وسلم، عدم الاستسلام لظروف القهر والاستبداد، والتأسيس لمجتمع سياسي جديد تتحرر فيه الدعوة من الطاغوتية التي صادرت جميع حقوق وحريات المؤمنين.
وهناك في البقعة الجغرافية التي كانت تسمى "يثرب" أسس أول مجتمع سياسي لدولة الإسلام على قاعدة الأخوة بين جميع مكونات المجتمع وعلى قاعدة لا إكراه في الدين وعلى قاعدة التعايش بين المؤمنين وغير المسلمين من اليهود والنصارى..
فالهجرة النبوية لم تكن مجرد هجرة مكانية جغرافية من مكان إلى آخر بل هجرة قيمية حضارية عقدية وإيذانا بإشراق شمس الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والتخلص من
الظلم والاستبداد والطاغوتية التي تريد أن تتسلط على عقائد الناس وحرياتهم الفكرية...
ولهذا كان الرجوع عن الهجرة مظهر من مظاهر الردة الحضارية من القيم الحضارية المدنية إلى القيم الجاهلية البدوية، فقد جاء في الأحاديث النبوية أن المرتد أعرابيا بعد الهجرة من مرتكبي الكبائر... ولم يكن المقصود بذلك مجرد الهجرة المكانية بدليل سماح الرسول الكريم لبعض الأعراب بالعودة إلى بلدانهم بعد أن عرف قوة إيمانهم واعتدادهم بحرياتهم وكرامتهم وقيمهم الإسلامية الجديدة وأن لا خوف عليهم من الردة القيمية وقد بوب البيهقي هذه الاستثناءات بــ"باب ما جاء في الرخصة التعرب بعد الهجرة". وورد في بعض روايات حديث سلمة عندما أذن له النبي بالعودة إلى البادية أنه قال للنبي (ص): "إنا نخاف أن يقدح ذلك في هجرتنا، قال: أنتم مهاجرون حيث كنتم"..
لقد كانت الهجرة النبوية هجرة من الظلم إلى العدالة ومن الاستبداد إلى الحرية ومن الفوضى إلى النظام ومن الفرقة إلى الوحدة ومن الضعف إلى القوة والعصبوية القبلية والعنصرية إلى الأخوة والمساواة ومن روابط الدم إلى روابط الفكرة والعقيدة....
وقد منحت الهجرة النبوية غير المسلمين في المجتمع المسلم كافة حقوقهم وأعفتهم عن الاشتراك بالحروب للدفاع عن المدنية مقابل ضريبة مالية احتراماً لحرية الضمير، ومنحتهم جميع حقوق المواطنة في وثيقة المدينة قبل أن ينكثوا بالعهود والمواثيق..
إن
الهجرة التبوية أكّدت أن المسلم الحق لا يخضع للاستبداد والفساد ويبحث عن الحرية ولا يستسلم للطغيان تطبيقا لقوله تعالى""إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض. قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا" و بشر من يهاجر في سبيل الله بأعظم البشائر، و جعل البشارة له في الدنيا و الآخرة فقال تعالي: "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما". و هذه البشائر تثبت أن الهجرة لم تكن حدثا بسيطا يروى من قصص التاريخ، و لكنها ساهمت الإسهام الأكبر في ترسيخ قيم حطمت الاستبداد و هدمت صنم الظلم و أسست لحقوق الإنسان الذي جاء الدين لكي يحققها.
نسأل الله أن يجعلنا جميعا من المهاجرين إليه في كل وقت وحين فالهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه..