شريحة ذات وزن في أوساط علماء التاريخ والإستراتيجيات واستشراف المستقبل تتوقع لتقنيات وأسلحة قتال العصر الحجري الهيمنة على صراعات المستقبل، ليحل السلاح الأبيض محل تقنيات جيل الحرب الإلكترونية وأسلحة الليزر والدمار الشامل وأسلحة العصر المتطورة.
انسجاما مع هذا الطرح الذي تعضده أسباب وجيهة في مناطق النزاعات تتصل بالإمدادات والعامل الاقتصادي وتراجع إمدادات الطاقة، وفعالية حروب العصابات والأفراد وقدرتها على الالتفاف على أنشطة الاستخبارات وغيرها، آثرت هذه السطور الانكفاء إلى البديهيات والمسلمات وجذور المنطق التي سادت العصر الحجري قبل آلاف السنين، والتقليل من مساحات التنظير والتحليل السائدة اليوم. ولعل مشهد الشاب
الفلسطيني الذي يطارد الجندي الإسرائيلي المدجج بالسلاح قبل التمكن منه بسكين خير عضد لتلك النظرية، باعتبار فارق التدريب والتسليح والتجهيز الذي يقارب الصفر في حالة مقاوم فلسطيني هاو قياسا بجندي إسرائيلي محترف! هذا المشهد وغيره العشرات -حيث وجدت مقاومة شعبية وإن نُزع السلاح- ليس سوى دليل على فقدان أسلحة الجيل الرابع الحديثة ميزة الردع بوجه حرب العصابات، بل وبوجه حرب الأفراد، بعد فشلها بحسم موقعتها غير المتكافئة بوجه المقلاع والحجر والسكين والمقذوف اليدوي، رغم أن عقود الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أتاحت للمشروع الاستعماري تطوير تقنية السلاح وثقافته وتوظيف وسائل الإعلام والسياسة والابتزاز الاقتصادي والسياسي خدمة لمشروعه، قبل اهتزاز موازين قوته.
لأسباب تاريخية وحضارية ودينية بقيت فلسطين مركز الكون وميزان صراع القوى الكبرى منذ بدء الخليقة مرورا بالعصر الحجري -وما تلاه- انتهاء بعصر العولمة، فكانت القوة التي تحكم فلسطين هي القوة التي تسود العالم وتفرض عليه منطقها في أغلب الأحيان، في مفارقة تاريخية نادرة.
لم تكن فلسطين أبدا كيانا معزولا عن محيطه، بل كانت الشام والعراق والحجاز وأرض الكنانة وما وراءها امتدادها الطبيعي وفضاء تكاملها العضوي كوحدة إنسانية جغرافية ثقافية وحضارية وجيوسياسية واحدة بلا حدود فاصلة جغرافية أو بوابات جمركية.
ومثلما كان صمود أهل فلسطين -في فترات احتلالها- عنصر حفاظ على هويتها التاريخية التي تربطها بمحيطها الوحدوي، لحين تحريرها على يد الجيوش القادمة لنجدتها من محيطها عند تحقيقه شروط وحدته السياسية، باءت محاولات سلخ إنسان فلسطين عن ذلك المحيط -أيا كانت هوية المحتل- بالفشل. ارتباط نادر لا يقتصر على الهوية بل يطال مؤشر مستوى الصحة والاعتلال الذي يقرر علاقة القوة والضعف بين الاثنين. إن ضعف أحدهما ضعف الآخر، والعكس صحيح.
تاريخيا لم تُحتل فلسطين يوما بغير تكامل فريد لثنائية أخرى هي ثنائية الخيانة والقوة. وفي المقابل لم يكتب لأي مشروع تحرري النجاح إلا عبر مسار امتلاك القوة وتفكيك الخيانة. ومقابل تحلي الزعامات القومية التي انقلبت على الدولة العثمانية بميزة الخيانة الذاتية والقوة الخارجية بالتواطؤ مع القوى الاستعمارية، تتمثل القوة ورفض الخيانة في موقف السلطان عبد الحميد الثاني برفض إغراءات استيطان اليهود أرض فلسطين، رغم أن الأموال الطائلة التي عرضت عليه تعزز درجة قوته الرسمية عبر تسديد ديون دولته والشخصية عبر تثبيته على عرشه، غير أن موقفه المشرف بوجه قوة الخصم وخيانة الحليف كلفه الاثنين معا؛ الدولة والكرسي.
وفي النسق ذاته، نجد في تجريد أهل فلسطين من سلاحهم أيام الاحتلال البريطاني والتواطؤ العربي وجها آخر لتلك الثنائية، تجتمع فيها عقوبة الإعدام البريطانية لكل من يحمل رصاصة عربية مقابل تسليح العصابات الصهيونية، مع نزع الجيوش العربية أسلحة المقاومة الجهادية الخفيفة في مناطق سيطرتها بحجة احتكار الدفاع عن الأرض الفلسطينية، لتقوم بالانسحاب يعدها وتسليم كل شيء ببساطة لمجازر العصابات الصهيونية.
وما دور الطوق العربي في عزل فلسطين عن محيطها بما يخنق مقاومتها ويحول دون نصرتها، سوى استمرار لتلك الثنائية التي يعبر عنها بتجرد إدارة مدفع الدبابة العربية ظهره للأرض الفلسطينية، وتوجيهه نحو أرض دولته العربية!
تلك الثنائية ظلت الوقود لكافة مشاريع الهيمنة الاستعمارية ونواتها الانقلاب على الحريات في العالم الثالث. معادلة وعاها العقل الفلسطيني الباطن وهو يرى أرضه وروحه ومسجده وكنيسته وأمله ومستقبله يقضم يوميا بمنطق تلازم القوة والخيانة. أدرك هذا العقل أن التعامل مع مشاريع عالمية لا يجدي معه تقديم حلول محلية وقُطرية ضيقة، وأن انتظار جيوش نجدة فلسطين من محيطها سيطول، وأن الحديد لا يفله سوى الحديد؛ وأن القوة لا يداويها سوى القوة بكافة أشكالها المتاحة وأقلها الصمود ما استطاع إليه سبيلا، وأن الخيانة لا يداويها سوى تفكيكها، وأن السبيل لذلك تقديم الصامدون أغلى ما يملكون؛ مشاريع الشهادة كشرارة تنقل عبء الثورة من فلسطين لعمقها الخارجي؛ لتمنح الأمة القوة لحل معضلة ثنائية الخيانة والقوة.
وعى العقل الفلسطيني المقاوم حقائق اختلال موازين القوة لصالح الطرف المستبِد، وأدرك المعادلة جيدا؛ أن الخيار المتاح للطرف الأضعف إفشال مشروع المستبِد عبر استنزافه، إلى أن تتغير الظروف فيتغير معها الشعار من استنزاف الخصم إلى محاولة إسقاطه تحت عنوان: "انتفض"، سبيلا لإفشال أهداف المشروع الاستعماري لفلسطين وعنوانه: "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض".
أدرك الفلسطيني أن صراع الأمس واليوم والغد وبعد غد ليس سوى صراع وجود، وأن وجودك وصمودك -بحد ذاته- يستفزان المستعمر الذي يعتبرك تهديدا لوجوده. لذا سيبادر للقضاء عليك إن لم تبادر -عبر فعلك على الأرض- لتخليص نفسك. فإن لم تشأ الانتفاض؛ لا بأس. دع غيرك ينتفض!
هديل الهشلمون، فادي علون، محمد أبو خضير، عائلة الدوابشة... أسماء تتضمنها قائمة طويلة من الضحايا شاء لها القدر التمسك الوجودي بالأرض، إن لم يكن فوقها فتحتها على الأقل، هم وسواهم من المجهولين -في عرف المشروع الاستعماري- ليسوا سوى خلايا نائمة لمشروع حضارة الشرق المضاد، رغم أن هذا الشرق كان الرافعة الحضارية لغيره -بما فيهم مستعمرو اليوم-.
خلاصة القول.. ما يواجه الاستعمار الشامل اليوم شمولية المقاومة لا اجتزاؤها -وإلا سهل حصارها والاستفراد بها- كما حصل ببيت المقدس.
وما يعزز خندق المقاومة انضمام أكناف بيت المقدس لمعادلة المقاومة بما يوسع جبهات المستعمر ويبعثر أوراقه في صراع إرادات يحسمه الطرف الأطول نفسا والأكثر صمودا.
مربط الفرس إذا انضمام ثوار مصر ونهر الأردن بضفتيه الغربية والشرقية للانتفاض الطويل على درب تحرير الجميع. لن يتحرر الأقصى دون تحرير إنسان هذه الأمة لنفسه من قيود صنعها بنفسه، أولها الخوف من قوالب أنظمة كرتونية شكّلها المستعمر في معادلة الخيانة والقوة؛ هي أعجز من أن تحمي مصالحها الذاتية، ناهيك عن مصالح المستعمر المحلية والإقليمية التي منحها إذعان الناس لها الاستمرارية.
ليس من الحكمة إرهاق المنتفضين بعناوين كبيرة لمشاريع ضخمة لا تقوى على حملها في هذه المرحلة، لا سيما مع غياب الأطر الثورية والتنظيمية القادرة على حمل مشاريع تحرر متكاملة -مرحلة ما بعد التحرر- وتنزيلها أرض الواقع. فمن الممكن يقتضي تقديم وصفة انتفاض بسيطة بعناوين عامة وعلى قاعدة أهل مكة أدرى بشعابها قوامها:
- حرمان نظام إستعماري قائم أساسا على السيطرة من احتكار تلك السيطرة على الأرض الخاضعة له.
- ربط استهداف النظام الاستعماري واستقرار المناطق الواقعة تحت سيطرته، باستقرار منظومة مصالحه فيها. يقول عراب السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر: " إن مشكلتنا ليست حل مشاكل دول العالم الثالث بل إمساك خيوط هذه المشاكل واللعب بها وفق مصالح الولايات المتحدة". إن إمساك القوى الكبرى لخيوط موجة الربيع العربي الأولى -قصيرة النفس- ليس نهاية المطاف، وإن اندلاع موجة جديدة -لا تقتصر على النخب- تستلهم من انتفاضة الأقصى نموذجا، تحد من قدرة المستعمر على الإمساك بخيوط اللعبة.
- شمولية الانتفاض بما يوسع الجبهات وبما يستنزف الخصم المستعمر الرازح في الأصل تحت أزمات اقتصادية واجتماعية جمة. سيعمد الأخير للتهدئة وتقديم وعوده المحفوظة عن ظهر قلب حفاظا على مصالحه في كل مرة. إن مقابلة التهدئة بالتصعيد، ومقابلة محاصرة الانتفاض بتوسيع رقعة الإنتفاض، يغير من قواعد اللعبة وموازين الردع تدريجيا لمصلحة الطرف المقاوم، وإن نصف انتفاضة -بدلا من انتفاض متواصل- انتحار بامتياز، كما يعي منتفضون خسروا كل شيء، فلم يعد هناك ما يمكن خسارته.
إن عولمة الانتفاض أساس بقاء في صراع بقاء، يمثل نهاية مرحلة وبداية مرحلة تنفض الغبار عن إرادات معطلة. وإن القوى الحية التي أبدعت وسائل مقاومة المستعمر بوسائل قتال العصر الحجري، هي ذاتها التي يمكنها استخلاص الأفضل من صلابة الإرادة المسلحة بالحجارة. {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون}.