نحن – دول العالم الثالث عامة والعرب خاصة - يحق لنا أن نوجه سهام اتهاماتنا للغرب ومؤسساته الحقوقية ومنظماته الإنسانية متهمينه بانتهاج سياسة الكيل بمكيالين، والنفاق الحقوقي والإنساني، وازدواجية المعايير. ذلك الغرب الظالم ومجموعة الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن التي شاركت ولا تزال بالفيتو وبالقرارات المسيسة الظالمة بشرعنة الاحتلال الإسرائيلي، وتدمير العراق والشام وليبيا واليمن، وغضت البصر بل ووفرت غطاء سياسيا للكيان الصهيوني ومذابحه وجرائمه المستمرة.
في السابع من كانون الثاني/ يناير تعرضت صحيفة "شارل إيبدو" لهجوم مسلح أسفر عن مقتل 12 شخصا كان أولهم حارس مسلم من أصول عربية اسمه "أحمد مرابط"، على الفور بادر العالم بارسال برقيات التعزية وإدانة واستنكار العمل الإرهابي الجبان، وشدوا جميعا الرحال للمشاركة في مسيرة ضد الإرهاب الأسود يتقدمها "بنيامين نتياهو" كتفا بكتف مع زعماء عرب ومسلمين!!. ذلك هو "نتنياهو" الذي تلطخت يداه بدماء عشرات الصحفيين فضلا عن النساء والأطفال، ذلك هو "نتنياهو" الذي دمر حاصر غزة وأهلها، والعالم المنافق لا ينبس ببنت شفة.
أدانت المؤسسات الأهلية والجمعيات الإسلامية في أوروبا والعالم ذلك الهجوم، وأصدرت بيانات ونشرات تؤكد أن مثل هذه الأعمال لا تمثل الإسلام من قريب ولا من بعيد. وأدانت الشعوب العربية والإسلامية العنف بكل أشكاله واستنكرت قتل الأبرياء المدنيين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في تصرفات حكوماتهم الظالمة.
وفي الرابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، جاءت سلسلة التفجيرات وإطلاق النار الكثيف الذي هز أرجاء العاصمة الفرنسية
باريس، وأسفر عن مقتل 127 شخصا على الأقل وثمانية من المهاجمين.
ويا للمصادفة ففي اليوم ذاته تأتي ذكرى استهداف الكيان الصهيوني لرئيس هيئة أركان المقاومة الفلسطينة "أحمد الجعبري"، ومرافقه "محمد حامد الهمص" ليضيف جرحا لجراح شعبنا الفلسطيني الثائر، وهو اليوم ذاته الذي ينهي فيه الدب الروسي سلسلة غارات طائراته المجرمة شهره الأول بأكثر من 1000 شهيد سوري ويستهل الشهر الثاني بـ 30 مدنيا ارتقوا في اليوم ذاته.
لم يعد الأمين العام للأم المتحدة "بان كي مون" يعرب عن قلقه ولم يعد – إن كان – يكترث لما يحدث في سوريا. لا يشغل بال العالم المتحضر ما آلت له العراق، وما حل باليمن وما نزل بليبيا. لم تعد أرواح أطفالنا ونسائنا في فلسطين ذات قيمة، أصبحنا أرقاماً تسجل في نشرات الأمم المتحدة وجمعيات "حصر الموتى". لم يشارك قادة العالم في جنازة أكثر من 300.000 سوري ارتقوا على يد الطاغية وزبانيته من حزب الله وإيران وغطاء الروس والأمريكان.
يا ترى كم يجب أن يصل العدد كي تأتي قادة العالم لتسير في مسيرة لوقف الإرهاب وشلال الدم؟! لن يحدث ذلك، ولن يسير في مواكب أعراس شهدائنا سوى الشرفاء والأحرار، وأولئك أنى لهم شرف المشاركة في تشييع أقمارنا إلى جنات ربهم.
لكن لا يجب أن ننسى في غمار الأحداث أن باريس خرجت في مضاهرات شارك فيها عشرات الآلاف إبان الحرب على غزة، وخرجت الجماهير البريطانية بالآلاف بمشهد مهيب من شارع "كنجستون هاي ستريت" غرب لندن متجهة إلى مقر البرلمان البريطاني تنديدا بالعدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014. وكذا شهدت معظم عواصم الدول الغربية نشاطات ومظاهرات منددة بإرهاب الكيان الإسرائيلي.
تعاطفت شعوب العالم الحر مع الشعب السوري المكلوم، ورأينا منهم حسن استقبالهم للاجئين المهاجرين من بلدان العرب إلى بلدان الغرب!! أظهرت الشعوب الغربية إنسانيتها حتى أن "نيكولاس مونتان" الأرجنتيني الذي قرر أن يقضي إجازته على جزيرة يونانية لإنقاذ المهاجرين من الغرق أسماه البعض بـ "ملاك البحر"، وكثير غيره من أحرار العالم ممن عملوا على على مساعدة وإنقاذ المهاجرين وإيوائهم. لم يصمت الأحرار في العالم على ظلم وجور العسكر في مصر. لم تغض منظمة "هيومان رايتس ووتش"، كما فعل غيرها من منظماتنا العربية، البصر عن جرائم العسكر ضد أبناء شعبهم، بل فضحتهم وعرت وجوههم وكشفت سوءاتهم أمام العالم "الرسمي" الصامت المتآمر أو السلبي، في أحسن أحواله. لا ننسى أن "راشيل كوري" الفتاة الأمريكية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، قد سالت دماؤها على أرض فلسطين الحبيبة بعد أن قتلتها جرافة الحقد الإسرائيلي.
نعم يجب أن يعذرنا أحرار العالم إن لم نظهر التعاطف المتوقع، يجب أن يعذرونا إن كانت إنسانيتنا عنصرية فجراح أمتنا دامية وآلامنا لا تسمح لنا برفاهية التعاطف ومآزرة الآخر، فقلوبنا تنزف وهي تودع فلذات أكبادها، وأحاسيسنا تبلدت وهي تعد قتلانا، ومشاعرنا ارتبكت حتى أضحت لا تعلم متى تفرح ومتى تحزن ومتى تتضامن ومتى تتعاطف ومتى تتألم؟!
ولكن وبين يدي هذه المأساة التي نعيشها، لا يجب أن نغفل أن قتلتنا وظُلّامنا من بني جلدتنا ومن إخوتنا الذين قبلوا أن يكونوا أداة قتل ومرتزقة في يد قوى الغطرسة الاستعمارية. لا ينبغي لنا أن نغفل أن رسالتنا أكبر من حكومات الغرب الظالمة المتكبرة. لا ينبغي أن نقزم أنفسنا وننزل لمستوى تلك الأحجار الصمة من الرؤساء المنافقين والسياسيين المنبطحين في دول التقدم والتطور وحقوق الإنسان والحريات المزيفة. يجب أن نصل بوعينا إلى أن في الغرب شعوبا تحترم الحريات وتقف مع أصحاب الحقوق وطلاب الحرية والاستقلال، ولكنها ماكنة البروباجندا السوداء والإعلام المسيس النافذ إلى عقول الشعوب الغربية ووعيهم، عمل ويعمل على تغييب الحقائق وتشويه الواقع. ونحن بقصور من بعضنا، وبمشاركة المرتزقة من حكوماتنا وطواغيتنا، وبأساليب التنفير والتكفير والتشويه من بعض شذاذ الآفاق ممن ينسبون أنفسهم لديننا، كنا عوناً لتلك الماكنة الموجهة في تشويه صورتنا وخلق الفوبيا المفتعلة منا ومن حضارتنا إن قدر لها أن تعود.
الإنسانية لا جنسية لها، وقتل الأبرياء عمل لا يقبله إنسان بغض النظر عن دين وعرق وأيدولوجية الضحية مادام لم يعتد ولم يقتل. لا ينبغي أن تمنعنا جراحنا وآلامنا من أن نتعاطف مع أي بريء وقع عليها ظلم، ونحن أحرى بأن نشعر بآلام المظلومين، فكم كانت جميلة رسالة تلك الوجوه البريئة من زهرات وأشبال غزة المكلومة إلى أحرار العالم وضحايا باريس. نحن شعب نعشق الحياة ونكره القتل. يوماً ما ستصل تلك الرسالة إلى أذن سامعيها، وسيعلمون أن من اختاروهم ليحكموا بلادهم قد كانوا سبباً في خلق هذه الهوة في ضمير الشعوب والإنسانية.