قضايا وآراء

مثقفون خذلوا أمتهم

1300x600
((إن الحديث عن وضع المثقف العربي في هذه المرحلة مخيف ومؤلم، ولكنه ضروري جدا، وقد قررت أن أبذل جهد المقل في تناول الحالة الثقافية العربية في سلسلة مقالات ألقى بها الله متحللا من عبء ثقيل، ومتأملا أن ينهض ولو قليل من المثقفين العرب لحمل الأمانة، متحررا من تقديم المهم على الأهم، لا سيما في هذه المرحلة المفصلية من التاريخ العربي والإسلامي والإنساني.))

أما وقد اعتمدنا تعريفا أو مفهوما عاما للمثقف، فإن هناك مسؤولية كبيرة على عاتق فئة المثقفين العرب أصحاب المنابر الأكثر تأثيرا، ولهم شهرة واسعة في مختلف الأوساط الشعبية والنخبوية، الذين لهم نوع من المصداقية-بغض النظر عن أهليتهم لها-  وكلماتهم تصل إلى عدد كبير من الناس، وغالبا تتجاوز أقطارهم، وعموما هم في حالة تفرّغ مهني لنشر الأفكار والرؤى حول ما يجري... هؤلاء وزرهم أكبر ومسؤوليتهم أعظم، فهل كانوا أهلا لحمل الأمانة؟ دعونا نستعرض وضعهم.

لقد أعلنت الولايات المتحدة الحرب على ما يسمى (الإرهاب) بعد أحداث 11/9/2001م في نيويورك وواشنطن، فكان المثقف العربي إما مهرّجا مبشرا بانتصارات وهمية على الغزو الأمريكي القادم إلينا بما يحمل من صلافة ووقاحة وإجرام، وبائعا للشعارات وانتحل دغدغة العواطف، أو كان صدى لرؤية النظام السياسي في الأقطار العربية المختلفة، يعيد كلام الساسة بألفاظ منمقة أو فجة، بل أحيانا لا تفرق بينه وبين الناطق الرسمي الحكومي.

وصار المثقف العربي نصيرا للجلاد على الضحية أحيانا؛ عبر الدعوة إلى تنقيح التراث، وإعادة النظر في التعليم الديني، بحجة التطوير والمراجعة والتسامح وتجفيف البؤر الفكرية للعنف...إلخ من الدعاوى التي لا يخفى الهدف الحقيقي لها...كلام حق يراد به باطل، فلماذا لا يطلب هذا (التنقيح)من مؤسسات الكيان العبري التي تؤسس الطفل الصغير على مبادئ العنصرية، واستخدام العنف بل تقديس القوة والتحريض على قتل العرب وانتهاك مقدسات المسلمين؟!

والجانب الثقافي الذي هو ربما الأكثر تأثيرا على عامة الناس وأعني به الإنتاج الدرامي، فقد تبنى فيما أنتجه الرواية الأمريكية على علاّتها واعتنق فكر المحافظين الجدد بلهجة عربية حول مفهوم الإرهاب والإرهابيين، وصار قلعة متقدمة للغزو الثقافي المرافق لقطاعات المارينز الغازية، وتجرأ على السخرية من شعائر ومعتقدات الإسلام بلا ذرة من ورع أو خجل أو احترام للمشاعر... فبئست الدراما من كتبة السيناريو إلى المخرجين إلى الممثلين وحتى الكومبارس!

والأدهى والأنكى ما وصل إليه حال المثقفين العرب من الخزي والعار بتجميل صورة الكيان الصهيوني، وتوجيههم سهاما مسمومة إلى الشعب الفلسطيني ومقاومته، باسم الحرص على فلسطين والدفاع عن قضيتها، وباسم الواقعية والتعايش والسلام، وصار هذا النمط المقرف من الثقافة والمثقفين له منابر مفتوحة، بدعوى زائفة اسمها حرية التعبير عن الرأي...وبهذا انهار الحد الفاصل الذي ظنناه منيعا ومتينا بين سياسة الأنظمة والحكومات وخياراتها أو ضروراتها المفترضة، وبين من يفترض بل ينبغي أنهم يعبرون عن ضمير الأمة ووعيها الجمعي...لقد أتيت الأمة من قبل مثقفيها!

نعم، لقد كان الرهان يقوم على أن حفاظ المثقفين على هذا الحد الفاصل وتوحدهم واصطفافهم باتجاه طموحات الأمة، وانحيازهم الحقيقي إلى عشق الأمة للعزة والكرامة، كفيل بخلق حالة توازن ولو معنوية تحول دون انتقال الانهيار السياسي إلى الساحة الثقافية والشعبية، إلى أن تتغير الأحوال القائمة، وتتبدل الظروف البائسة، فخسرنا الرهان، وانتقل المرض إلى مختلف الأوساط الشعبية...وا أسفاه!
اندلاع الثورات العربية في مطلع 2011م كان يفترض أن يستنهض المثقف العربي، ويسترد على أكتاف الثائرين توازنه الذي ربما التمسنا له عذرا حين اختل في المراحل السابقة، وأن يعيد هذا المثقف الذي لم يؤد دور الفيلسوف والملهم للثورات-كما يفترض- صياغة خياراته في المشاركة في التوعية وتوجيه البوصلة وقيادة السفينة نحو بر الأمان، ولكن هيهات هيهات، فقد صار المثقف عنصرا مركزيا في الثورات المضادة، بدعوى الحفاظ على الدولة القطرية من الانهيار، أو التصدي للمخططات الأجنبية، وصار يحدثنا عن المؤامرات وكأنه خلع ثوب الثقافة وصار حديثه مثل أحاديث التسالي في المقاهي الشعبية، أو مجالس النميمة!

لقد خذل المثقف العربي الأمة من جديد خذلانا يضاف إلى ما سبق في سلسلة الخذلان عبر عقود طويلة، ولم يهتبل المثقف الفرصة الذهبية للتوبة والإنابة، بل ازداد كبرا واتباعا للهوى وإصرارا على التضليل والكذب والانتقائية المسيسة، وقدّم إفرازات الأحقاد الأيديولوجية، وتصفية الحسابات الحزبية أو حتى الشخصية على مصير أوطان وشعوب عانت طويلا من الاستبداد والجهل والفقر، وفي قلبها كيان إحلالي اقتلاعي لا يزيد عدد سكانه عن سكان مدينة عربية كبيرة، ومع ذلك يعربد ويضرب في كل اتجاه... والمثقف كان عنوانا بارزا للخذلان!