التطور الطبيعي للانقلاب وكشوفه السيسية مستمر: بدءا من دولة ومؤسسات (كإن) الفاشلة الوهمية، إلى (دولة الضد) الفاسدة المفسدة التي تعمل ضد وظائف الدولة المعروفة والمألوفة، ثم دولة (المافيش.. مافيش)، و(الفاشوش في حكم قراقوش) على رأي ابن مماتي وسخريته. إلى دولة الفناكيش المسماة زورا بالمشاريع القومية في إطار سياساته في الفكاكة والكفتولجي والضحك على الذقون، لكنه اليوم يصل إلى مرحلة بالغة الهبوط، مرحلة (دولة الملاهي) والتلاهي.
دولة ليست إلا سيركا بهلوانيا، ومدينة ملاه كبيرة، وبيت جحا، أو كما أسلفنا من قبل: عنبر العقلاء؛ السرايا الصفرا، مستشفى مجانين رسمي! وهذه مرحلة قديمة متجددة لكنها اليوم متجلية في أسوأ صورها، وتعدد تجلياتها، وعلى رأسها برلمان لا يمت لكلمة البرلمان بصلة.
أما الثورة الحقيقية فقد أتت ببرلمانها الذي كان يرأسه البرلماني العظيم، الأسير المضطهد اليوم، الأبي الذي أبى المساومة أو المقاولة على مبادئه: الدكتور الكتاتني، وملأه نواب شعب حقيقيون مختارون بكل حرية ونزاهة ومعبرون عن الشعب بحلوه ومرّه، وخيره وشره، وريفه وحضره، عماله وفلاحيه.. احتشد فيها صفوة المجتمع، من إسلاميين وليبراليين وثوار حتى بعض الدجالين من الآكلين على كل الموائد أتاحت لهم ثورة الحرية وحرية الثورة أن يدخلوا من باب "الآثار الجانبية" التي لابد في البداية منها..
كان برلمانا بحق، وكانت له سلبياته ولا شك، ولكن لا مجال للحديث عنها بعدما رأينا ما سبق من برلمانات
الفساد ونواب الكيف، وما لحق من برلمان مستشفى المجانين الذي نحن بصدده.
اليوم يتحقق أمامنا نموذج عصر الرويبضة بكل معناه: الرجل التافه يتكلم في الأمر العام، كما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وتتكاثر سلالة الرويبضات، وتنتج أبلغ تفاهاتها وسفاهاتها التي يوظفها الانقلاب لتلهية الناس بالملهاة عن المأساة، وبالمسخرة عن المقبرة، وبالبلهوانات عن الكوارث التي يسوقهم إليها.
كنت من قبل تكلمت عن نخبة منحطة باعت مبادئها وشعاراتها وضميرها وأخلاقها بدراهم معدودات ووعود كاذبات وخيانة ومؤامرات، لكننا اليوم أمام نخبة برلمانية "تحت خط الانحطاط" أشبه بحديث المنظمات الاقتصادية عن ما هو تحت خط الفقر.
نحن أمام نخبة قوامها: بلطجي متسلط، وبذيء متسفل، وراقصة وطبال، وفاجر متبجح، وجاهل متعالم، ومنافق كذاب، و.. إلخ. كثير من هؤلاء لا يصلح لهم أن يكونوا في برلمان أو حتى مجلس محلي، منهم من كان يجب أن يودع السجن، ومنهم من مكانه الطبيعي والصحيح هو مستشفى الأمراض العقلية أو النفسية.
برلمان القراطيس وظيفته الأساسية التمرير، والتبرير، والتغرير، والتزوير، ثم التلهية التي سيسميها الناس تسلية. فسوف يكون دوره الأول تمرير تشريعات الاستبداد والفساد والكساد التي أصدرها الطرطور والسفاح؛ التشريعات التي تقنن دولة التوحش والاستباحة الشاملة، وتغطي على عمليات تقنين النهب وتوزيع الغنائم على العسكر ومحاسيبهم، وتقنن التبعية والعمالة للخارج.
وسوف يكون برلمان التطبيل الأكبر في تاريخ البشرية الذي بدلا من الرقابة والمساءلة وانتقاد الأداء الحكومي ومطاردة الفساد والإهمال وما إليه، سنسمع عن (سؤال) عن صحة الحكومة وحالتها النفسية، وعن مزاج المنقلب العكر وأحلامه، من باب (أحلام سعادتك أوامر)، وسنسمع عن (طلب إحاطة) عن الإنجازات الفنكوشية، وعن المعوقات الشعبية الملعونة للمسيرة الانقلابية الميمونة، وعن (استجواب) للشعب وللشباب وللمواطن الذي يعجز عن مجاراة الانقلاب في التقلب وتقليب عيشه..!!
سنسمع عن (طرح الثقة) في الحكومات الأجنبية التي تتأخر في الاستجابة الفورية لأحلام البطل المدلل، والتي تتآمر على مشروعاته العبقرية وقدراته الخارقة!
وكما أن دور القوات المسلحة اليوم والتي تحيي الأفراح والليالي الملاح، لا يطؤها إلا الراقصات والطبالون والزمارون، فإن
حكم العسكر لا ينتج إلا برلمان المعسكر؛ برلمان فيه فوق الخمسين رتبة كبيرة والباقي بيادق وعساكر مجندين ومتطوعين واحتياط وتحت الطلب.. البرلمان محاصر بالعسكر من الداخل والخارج. وبدلا من (موافقون) سنسمع النائب يقف انتباه ويزعق (تمام يا أفندم).
وبعد أن شبعنا من برلمان (سيد قراره) الغابر، سنجد أنفسنا أمام ذراع برلماني للدولة العميقة (والدراع بيكلف كتير)، وبعد برلمان الشاذلي وعز وزكريا عزمي وما أدراك ما فعلوا بمصر، نستقبل اليوم برلمان عكاشة ومرتضى وابنه وسمير غطاس.. وتتشكل النخبة الجديدة على عينك يا تاجر.
برلمان التلاهي في دولة الملاهي علامة جديدة على فصل ممتد من تاريخ
مصر: حين يحكم العسكر وتتحول مصر إلى معسكر، فلا بأس أن تتحول دور القوات المسلحة إلى مراقص تتصارع فيها الراقصات، وتتحول الحكومة إلى كلينكس يستعمله المنقلب حتى ينقلب مزاجه فيلقي بها في سلة المهملات، ويتحول القضاء إلى نموذج (القاضي حلاوة) الذي يخاطب مقدم العسكر قائلا: أنت سيدي وتاج راسي، ويتحول الإعلام إلى مرحاض بلدي عام مفتوح على الشارع..
برلمان التلاهي لا يجب أن يشغلنا كثيرا، بقدر ما نأخذ منه لقطة على مصير البلد حين تحكمها مثل هذه العقليات، وليعرف كل من اسهم في هذه الورطة كم أجرموا في حق الوطن والمواطن والحاضر والمستقبل، وليعلم كل من يكابر إلى اليوم أنه له يدا ومسئولية يجب أن يبرأ منها ويغسل يده بحق من أوزارها.. فالصورة التي جاء عليها برلمان الانقلاب تكشف مدى الإجرام الذي اقترفه من حرضوا على الانقلاب على برلمان الثورة، لقد أعطى الشعب درسه البليغ باحتجاجه الصامت في انتخابات الشرعنة الوهمية، وآن له أن يمارس ثورته الواضحة الكاملة القادمة، (وللحديث بقية).