كتاب عربي 21

تأشيرة إسرائيل على "جواز البابا"!

1300x600
فعلها البابا تواضروس، بابا الكنيسة الأرثوذكسية في مصر، وزار القدس، فبدد المكانة التاريخية لكنيسته، التي استمدتها من قرار منع المسيحيين من زيارة القدس، ما دامت تحت الاحتلال الإسرائيلي، وهو القرار الذي أخرج الكنيسة من إطار دولة السادات، لتحلق في المجال القومي والعروبي الفسيح.

كما أثبت تواضروس فشله في أن يحتذي حذو البابا شنودة، والذي لم يستمد مكانته عربيا ومصريا، من كونه بابا للكنيسة الكبرى في المحروسة، ولكن بعدائه للسادات، ورفضه التطبيع مع إسرائيل استجابة لمعاهدة السلام التي وقعها الرئيس معها!

كل ميسر لما خلق له، وتواضروس لا يملك مواهب شنودة وملكاته، فلم يحافظ لضعف الشخصية، وانعدام الموهبة السياسية، على موقع الكنيسة، الذي قرر أن تكون مجرد مؤسسة من مؤسسات سلطة الانقلاب، وجزءا من حساباتها الصغيرة والضيقة، وربما تلاقت الأهواء في إسقاط أول رئيس مدني بعد ثورة يناير، حافظ على موقع البابا السياسي، لكن وجوده أصلا كان مرفوضا، لأنه ينتمي للتيار الإسلامي أولا، ولأن الكنيسة تعادي الثورة ومنحازة لمبارك ثانيا.

 ولا يمكن القفز على إعلان البابا شنودة في بداية الثورة بأنهم مع مبارك، ودعوته لأتباعه بعدم المشاركة في "المظاهرات".
وكان يمكن، للبابا تواضروس أن يكتفي بهذا القدر من التبعية، لكن لعجزه عن استبصار مكانة الكنيسة المصرية كما ورثها من سلفه، فقد انغمس في الأداء السياسي على نحو سيخرجها وطنيا وعربيا من مجالها الحيوي، لتصبح مجرد مؤسسة دينية، ربما تتفوق عن الكنيسة الإنجيلية والكاثوليكية، في القدم، وفي عدد الأتباع.

المجمع المقدس، وفي ذروة خلاف البابا شنودة مع الرئيس السادات، أصدر قرارا يحظر على المسيحيين الأرثوذكس زيارة القدس ما دامت تحت الاحتلال الإسرائيلي، وهو موقف ارتفع بالبابا حد وصفه خارج مصر بـ "بابا العرب"، وظل البابا حريصا على سريان القرار، إلى أن وافته المنية، ليتماشى مع قرارات النقابات المهنية برفض التطبيع، وعدم زيارة القدس.

قرار النقابات بمنع التطبيع مع إسرائيل، مستمد من موقفها الذي رفض زيارة السادات للقدس ابتداء، ورفضها كذلك لمعاهدة السلام معها، والتي تم إطلاق أوصافا عليها مثل "اتفاقية العار"، وما إلى ذلك، وعندما ترفض النقابات التطبيع، فإن هذا يعد في السياق العام طبيعيا، لكن البابا كان قد حيا السادات على زيارته لإسرائيل وخطابه في الكنيست، وقال فيه شعرا بسبب هذه الخطوة، وأرسل له خطابين أكد له فيهما أنه يصلى من أجله.

وهو الموقف الذي تم تجاوزه، وكانت القوى الرافضة للسادات، والمعارضة للزيارة وللمعاهدة، حريصة على القفز عليه، ولأن السادات بعد اغتياله، لم يكن له بواكي، فأمكن تقديم البابا كما لو كان معهم على خط النار منذ بداية هبوط طائرة السادات في مطار بن غوريون!

فاتفاقية السلام مع إسرائيل وقعت في مارس 1979، وقرار المجمع المقدس بمنع المسيحيين من زيارة القدس، كان بعد عام منها، وتزامن مع انتهاء شهر العسل بين السادات والبابا، وقد وصل الخلاف ذروته بقرار الرئيس بعزل البابا والتحفظ عليه بأحد الأديرة، وتعيين لجنة باباوية لتدير شؤون الكنيسة وتتولى التعامل مع الدولة، وذلك ضمن الإجراءات التي اتخذها في سبتمبر سنة 1981، قبل اغتياله في السادس من أكتوبر من نفس العام.

قرار السادات بعزل البابا، مخالف للقانون، لأن قراره بتعيينه هو قرار كاشف وليس منشئا، وفي القانون الإداري فإن القرار المنشئ هو الذي يؤسس للوضع القانوني، وهو ما أنتجته القرعة الهيكلية. والقرار الكاشف هو الذي يقتصر على إثبات وتقرير ما هو قائم من قبل، فهو يظهر هذه الحالة ويكشف عنها فقط، لكن السادات تعامل على أنه ما دام قد أصدر قرار تعيين البابا، ونُشر القرار في الجريدة الرسمية، فإن من سلطته إلغاء هذا القرار.

والجدير بالذكر، أن قضاء مجلس الدولة رفض الطعن بإلغاء قرار السادات، وأكد أن صاحب قرار التعيين، من سلطته إلغاء قراره، وهو الرئيس، صحيح أن الطعن ورفضه تم بعد اغتيال السادات، لكن ملابسات عودة البابا شنودة لموقعه الديني في عهد مبارك، تكشف أن السلطة كانت حريصة على استغلال القرار السابق في السيطرة على رجل بدا واضحا، أنه يريد أن يتجاوز موقعه الروحي ليكون زعيما سياسيا للأقباط.

لقد كان مطلب البابا في العهد الجديد، التعامل مع قرار السادات كأن لم يكن، لكن مبارك حرص على التمسك بالحق في عزل البابا، وهذا هو السبب في تأخر عودة البابا شنودة لموقعه بعد اغتيال السادات، إذ صدر القرار على النحو الذي تمسكت به الرئاسة في 3 يناير 1985!

لقد استمر البابا شنودة في موقفه الرافض للتطبيع مع إسرائيل، ليكرس من زعامته الوطنية، ويعطي بعدا قوميا لصراعه مع السادات، ويخاطب وجدان العرب جميعا بهذا الموقف، حتى لا يكاد يوجد مرجع أو مصدر، لا يؤرخ لخلاف البابا مع السادات برفض البابا زيارة الرئيس لإسرائيل، وهو أمر غير صحيح، فقد بارك البابا الزيارة، ولم يكتف بمجرد تصريح صحفي أو بيان، ولكنه أرسل خطابين للسادات لهذا الموقف الشجاع الذي يؤيده الرب الداعي للسلام، وجاءا الخطابان مفعمين بالحب والتقدير لهذه الخطوة!

خلاف السادات والبابا طائفي بامتياز، عندما بدأ الحديث عن اضطهاد الأقباط، ووصل السادات إلى ذروة الغضب عندما تم استقباله في واشنطن بمظاهرات معارضة من أقباط المهجر، قيل أنه تم فيها قذفه بالبيض والطماطم، وقال لي البابا وأنا أحاوره، إنه عرف بالمظاهرات ولم يسمع بموضوع البيض والطماطم!.. لكن بعد هذه الواقعة تداعت الأحداث، التي بدأت في التراكم منذ حادث كنيسة الخانكة إلى أن وصلت إلى أحداث الزاوية الحمراء.

وهذا ليس موضوعنا، ففي منتصف التسعينات، حدث أن تفجرت أزمة عدد من المسيحيين قد زاروا القدس، وأصدر البابا شنودة قراره بـ "الحرمان" في مواجهتهم، ومما قيل وقتها أن حج القوم لم ينقطع أبدا، لكن مخالفة قرار المجمع المقدس كانت تتم بدون إعلان، ولم يكن لدى رأس الكنيسة ما يمنع، لكن في هذا العام وصل الأمر للإعلام، فكان لابد أن يظهر البابا حادا وعنيفا في مواجهة المخالفين.

كان البابا شنودة يعلن أنه لن يزور القدس إلا ويده في يد شيخ الأزهر بعد تحريرها، ولم تكن السلطة المصرية، في عهد مبارك حريصة على أن تخالف المؤسسات والأحزاب قرارات منع التطبيع، فإن كانت المعاهدة تنص على التطبيع، فقد تم الاكتفاء بالمجال الرسمي عبر وزارة الزراعة، بل إن وزارة أخرى لحساسية موقفها ولعلاقتها بالمثقفين كانت تعلن أنها لن تطبع مع إسرائيل، وهي وزارة الثقافة.

لكن البابا شنودة مات، وجاءت سلطة تستمد شرعيتها من إشعار إسرائيل أنها الأفضل من مبارك "كنزها الاستراتيجي"، ثم إن البابا الجديد لا يملك الكاريزما التي تؤهله لأن يكون زعيما قوميا، ولا مانع عنده من أن يلعب دور السياسي التابع للنهاية، فكانت وفاة "الأنبا إبراهام" أسقف القدس، فرصة لخلخلة قرار منع السفر، ولجس النبض الوطني.

يقال إن قرار الكنيسة كان في البداية يقتصر الأمر على إرسال وفد كنسي للعزاء، لكن يبدو أن توجيها صدر من جهة سياسية، بأن يقوم البابا برئاسة الوفد، ليضع على جواز سفره تأشيرة إسرائيل. وعندما اشتدت الحملة ضد تواضروس قال إن قرار منع الحج لا يزال ساريا، وانه سافر فقط للعزاء، بشكل يوحي كما لو كان قرار المجمع الكنسي هو فقط لمنع حج المسيحيين، وليس ضد السفر للقدس بشكل عام.
لا يمكن فهم ما أقدم عليه البطريرك، إلا بالنظر لواقعتين سابقتين للسفر لخرق قرار منع التطبيع، نظرنا لكل واقعة لحظة وقوعها أنها نتيجة تصرف غير واع ممن يفتقدون للوعي السياسي.

الأولى تمثلت في سفر الدكتور على جمعة (المفتي السابق)، إلى القدس بشكل مفاجئ وغير معلن. أما الواقعة الثانية فكانت بسفر وفد من الصحفيين المصريين إلى رام الله، برئاسة ثلاثة من أعضاء مجلس النقابة لحضور اجتماع لاتحاد الصحفيين العرب هناك، والمعلن هو لتقوية موقف محمود عباس "أبو مازن"!.. ولا يخفى على القارئ أن أبو مازن يقف على "خط النار" فكان شعوره بحضور الوفد مما يقوي ساعده، ويسدد رميه.
حدث هذا في ظل تولي "ضياء رشوان" منصب نقيب الصحفيين، والذي له علاقة بدوائر العسكر يفخر بها، وهو الذي بني سمعته على رفضه لقيام عدد من قيادات مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام والذي يعمل به، بالترويج للتطبيع، أيام أن كان رفض التطبيع يعد نضالا مجانيا ليس مدفوع الثمن!

نقابة الصحفيين تلتزم بقرار الجمعية العمومية برفض التطبيع، وقد أحالت أكثر من صحفي للتحقيق وأوقعت على المطبعين عقوبة نقابية لمخالفته، وعندما يقوم ثلاثة من المجلس المنوط به تطبيق القرار، فكان لابد لنا أن ننظر لهذا الموقف على أن له دلالته، وليس وليد حالة جهل سياسي من المسافرين!

لقد قوبلت الزيارة برفض صحفي عارم، لكن بزيارة البابا تواضروس، أعادت عضو المجلس حنان فكري التذكير بموقفها ونشرت صورتها مع الراحل "الأنبا ابراهام".

إنه توجه سلطة، تعمل على هدم كل الثوابت الوطنية، وتتقرب إلى إسرائيل بالنوافل. والبابا هنا مسير لا مخير.