كتب خليل حسين: ثمة مصادر متنوعة ولافتة في أرقامها لجهة تمويل تنظيم "داعش"، ما جعله الأغنى في العالم ماديا، وكذلك بشريا . ما يفرض مبدئيا ترتيب الأولويات في وسائل المكافحة، باعتبار أن محاربته عسكريا، باتت أمرا غير مجد، مقارنة بوسائل أخرى، ومن بينها، سد عوامل الجذب الذي يستغلها بحرفية لصالحه.
فرغم مليارات الدولارات التي يجنيها عمليا من عمليات بيع النفط وبيع الآثار وعمليات تهريب المخدرات والخطف مقابل فديات، وفرض الضرائب وتبييض الأموال، وتجارة بيع الأعضاء البشرية، وغيرها من المصادر الكثيرة التي يجيد التحكم بها في مساحات واسعة من أرض العراق وسوريا، ثمة عامل أساسي يتكئ عليه لاستثمار هذه الموارد في جذب وتعبئة آلاف المقاتلين في عديده، وهو الجانب الأهم في عملية الاستمرار التي يتميّز بها عمليا، فعلى الرغم من وجود نسب عالية في صفوفه من غير العرب، ثمة أرقام لا يُستهان بها من العرب، وجلها تُستدرج عنوة ولأسباب مختلفة إلى صفوفه، ومرد ذلك عمليا إلى حالات التهميش الاجتماعي والفقر والجهل والبطالة والأمية المتفشية في مجتمعاتنا العربية.
ليس صحيحا بالمطلق، أن جاذبية التنظيم تكمن في الخلفية العقائدية والدينية التي يتبناها ويبثها ببراعة وحنكة ودهاء، بل تؤكد غالبية الدراسات والبحوث التي أجريت على سلوكيات تعامل التنظيم الإرهابي في محيطه القريب والبعيد في عمليات الجذب والاستقطاب، أنها تعتمد في غالبيتها الارتكاز على الجوانب السلبية لتلك البيئات من تهميش وجهل وفقر وبطالة وأمية ويأس...، فجميعها تشكل عوامل أساسية في اللعب على الجانب السيكولوجي للجماعات المستهدفة، وقد تبيّن من خلال بعض الأرقام ذات الصلة في أسباب نجاح عمليات الجذب، صحة هذه الفرضيات بنسب عالية جدا، وبالتالي فإن الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية ومشاكلها وتداعياتها، تشكل أرضا خصبة لنجاح التنظيم الإرهابي في عمليات الجذب البشري إليه.
ففي عام 2014، وصلت معدّلات البطالة في الوطن العربي إلى 18 بالمئة، وهي نسبة عالية جدا، تمثل ثلاثة أضعاف المعدلات المقبولة عالميا، والأسوأ في ذلك، أن نسبة الشباب في هذه الشريحة الاجتماعية، تتخطى الثلاثين في المئة، وهي الفئة المستهدفة في عمليات الجذب التي يعمل عليها تنظيم "داعش". والأخطر من ذلك كله، أن عمليات النمو في معظم الدول العربية خلال السنوات الخمس الماضية، لم تتجاوز 3 في المئة، وهي نسب لا يمكن من خلالها احتواء البطالة من خلال خلق فرص عمل، والتي تتطلب في الحد الأدنى نسب نمو تصل إلى السبعة في المئة، ما أدّى إلى لجوء أغلبية الدول العربية إلى تحرير اقتصاداتها، وبالتالي الحد من نظم الرعاية الاجتماعية، والمترافق مع الفشل في تأمين البدائل الممكنة وعدم القدرة على تنشيط القطاع الخاص. إضافة إلى عدم تأمين البيئة الخاصة في صناعات المعرفة والتكنولوجيا التي باتت من مرتكزات قيام المجتمعات والنظم من كبوتها، الأمر الذي أدّى أيضا إلى زيادة منسوب اليأس والضياع لدى شرائح اجتماعية كثيرة، وبخاصة حملة الشهادات الجامعية، الذين يستغل تنظيم "داعش" إمكاناتهم العلمية عبر دفع رواتب مغرية لجذبهم والعمل في نطاق سيطرته.
وفي جانب سلبي متصل يستغله "داعش" بحرفية عالية، نسب تفشي الجهل المعرفي المرتفع في الوطن العربي، الذي بلغ في عام 2013 نحو 98 مليون أمي من أصل 340 مليون نسمة، أي ما نسبته 28 في المئة وهو رقم مهول، ففيما يصل عدد الأطفال غير الملتحقين بالتعليم الابتدائي إلى ستة ملايين، تصل حالات التسرّب المدرسي إلى 20 في المئة من بين الأطفال في مرحلة التعليم الأساسي، وتصل في بعض المجتمعات العربية إلى 30 في المئة، وهو يُعتبر رقما مرعبا في التحليلات الاجتماعية - الاقتصادية وتداعياتها. وبحسب المنظمة العربية للتربية والعلوم أيضا، فلا يتجاوز سوق المعرفة لجهة تداول الكتب بيعا وشراء في الدول العربية الأربعة ملايين دولار سنويا، فيما يصل في دول الاتحاد الأوروبي إلى 12 مليارا، أي ثلاثة آلاف ضعف، كما لا يشكل مجموع ما تُصدره الدول العربية مجتمعة من الكتب، ربع ما تُصدره اليونان منفردة. وفي حين يقرأ كل 20 طفلا عربيا كتابا واحدا، يقرأ الطفل البريطاني سبعة كتب مثلا، أما معدّل ما يقرأه الفرد في العالم العربي سنويا، فلا يتعدّى ربع صفحة، فيما معدل ما يقرأه البريطاني 8 كتب والأمريكي 11 كتابا . وما يزيد من مأساوية هذا الواقع وتعزيز بيئته السلبية في المناطق التي يسيطر عليها داعش، ما يفرضه من رسوم على الطلاب، فبحسب مركز أبحاث الكونغرس الأميركي، يفرض التنظيم رسما شهريا قدره 75 دولارا على طلاب الجامعات، و45 دولارا للمراحل الثانوية، و22 دولارا على طلاب المدارس الابتدائية.
إن مجمل العمليات العسكرية التي توجّه لتنظيم "داعش" من الممكن أن ترهقه وفي أحسن الأحوال تضعفه، لكن لن تكون أسلوبا ناجحا للقضاء عليه، فقد تغلغل عقائديا وفكريا واجتماعيا واقتصاديا، في بعض البيئات الاجتماعية العربية قسّرا أو عن طيب خاطر، الأمر الذي يتطلب معالجات من نوع آخر، فالضربات العسكرية التي توجّه للتنظيم الإرهابي في سوريا والعراق هي ضرورية، لكنها غير كافية، فالحرب على التهميش والجهل والتخلف والبطالة والانهيار الاجتماعي والاقتصادي أمر ضروري وملح في وطننا العربي، علاوة على إعادة قراءة متجدّدة وصياغة متنوّرة للخطاب الديني، الذي يعتبر الأسلوب الأنجع والأمثل للتخلص من أكثر التنظيمات وحشية في تاريخ البشرية جمعاء.
(عن صحيفة الخليج)