كتاب عربي 21

"تونس الإرادة": رفع اللبس عن الماضي والنظر إلى المستقبل

1300x600
كان الحدث الأبرز نهاية الأسبوع الماضي الإعلان عن حزب "حراك تونس الإرادة" بقيادة الرئيس السابق الدكتور المنصف المرزوقي، وهيئة سياسية تفوق الخمسين عضوا. تزامن ذلك مع الانشطار الرسمي للحزب الأغلبي "نداء تونس" بعد "حرب استنزاف" لشقوقه المختلفة أرهقت البلاد. سأحاول هنا الإجابة على ما اعتبره أهم سؤالين في أذهان العديدين: رفع اللبس فيما يخص الفرق بين الحزب الذي أسسه سابقا الدكتور المرزوقي "المؤتمر" والحزب الجديد؟ وما هو مشروع "تونس الإرادة" لحل مشاكل البلاد؟

سأنطلق في محاولة الإجابة هنا على ما صرح به رئيس الهيئة السياسية الدكتور المرزوقي، خاصة خطابه الأخير يوم الأحد الماضي، ولكن أيضا ما عرضه في وثيقة تهم المشاكل الهيكلية لتونس، التي تستوجب حلولا استراتيجية بعنوان "تونس 2065". لكن ما أكتبه، بصفتي عضوا في هيئته السياسية، هو أيضا في خضم الأفكار التي تعتمل داخل "تونس الإرادة" وستحتاج وقتا للإنضاج. 

أسس الدكتور المرزوقي مع ثلة من المناضلين حزب "المؤتمر" في 2001 وكانت مهمته الأساسية مقارعة الاستبداد وخوض معركة الحقوق والحريات، وخاض أول انتخابات ديمقراطية بعد السلطة وهو لايزال في لبس التأسيس وذكرى المقاومة السياسية؛ إذ لم يكن هناك وقت كاف لإعداد حزب الحكم. وهكذا كان الحزب في مأزق حكم شبه ضروري لإتمام الانتقال الديمقراطي الذي كان يناضل من أجله، يبقى أن تحالف "الترويكا" كان تحالفا بين أطراف محدودة في تجربة الحكم ومختلا لمصلحة "النهضة"، ولم يكن قائما على برنامج إصلاحي حتى ظرفي، خاصة إزاء الانتظارات الكبيرة للمواطنين في مرحلة ما بعد ثورة. وهذه أهم مصادر أخطاء الحكم بالنسبة للمؤتمر في الحكومة والرئيس المرزوقي على السواء التي اعتذرا عنها. 

على رأس حاجات المرحلة الجديدة تأسيس حزب حكم وليس احتجاجا، فحسب "وسطي يساري" (ليس له عقد مع الهوية) أو ديمقراطي اجتماعي يساهم في تعديل الموازين المختلة لصالح تحالف يميني واسع. ولهذا وإن تمثل الحزب الجديد في انصهار حزب واحد فيه، أي "المؤتمر"، فإنه ضم قيادات سياسية وليس فقط منخرطين من الطيف الديمقراطي الاجتماعي بخلفيات مختلفة (أعضاء مكاتب سياسية في "التكتل" و"الجمهوري" و"وفاء" و"البناء الوطني" وناشطين مستقلين من المثقفين والمجتمع المدني، وحتى من أصحاب الأعمال). المشروع الجديد جزء منه مشروع "المؤتمر" لكنه أوسع من ذلك، ولا يريد استنساح تجربة المؤتمر من حيث الالتباس بين حزب النضال من أجل الحريات وحزب الحكم ضعيف التجربة. في المقابل تجربة الحكم لبعض قيادات "تونس الإرادة" أيضا ليست مصدر لوم ونقد ذاتي فحسب، بل تمثل أيضا مكسبا للتمرس على دواليب دولة كانت دائما حكرا على منطق الحزب الواحد لأكثر من خمسة عقود. كانت السلطة مأزقا عند ممارستها، لكن تجربتها هي غنيمة وليست ورما للحزب الجديد. 

ومن هنا يمكن بناء مشروع عقلاني قادر على تقديم بدائل واقعية لتقويض العوائق الهيكلية للمنظومة التي أدت إلى ردة فعل الثورة. وقد أشار الدكتور المرزوقي إلى ستة ملفات كبرى تلخص منهجية العمل السياسي للحزب الجديد والبدائل الكبرى. وتتمثل فيما يلي:

أولا، حوارات وطنية في المسائل الاستراتيجية التي تتجاوز التجاذبات السياسية (وهو ما دفع فيه بقوة الدكتور المرزوقي في فترة رئاسته خاصة في محور توافقات الدستور)، التي تخص الآن مكافحة الإرهاب والفساد والعدالة الانتقالية، وفك الاشتباك بين الأطراف الاجتماعية لمصلحة تقوية المقدرة الشرائية لطبقة وسطى، أصبحت أضعف، في حين هي الرافعة الاجتماعية لاستقرار الدولة الديمقراطية. فهنا لا يمكن لأي معارضة أن تضع محور الصراع مقومات الدولة، ولا يمكن للحكم أن يوظف أغلبيته لفرض توجهات لا يمكن أن تخضع للتغير المتواتر للأغلبية والأقلية. 

ثانيا، الانتخابات البلدية والحكم المحلي. إذ دعا الدكتور المرزوقي حتى قبل انتخابات 2011 للإسراع بانتخابات محلية وبلدية، لكن بقية القوى السياسية تجاهلت الموضوع رغم أن الجميع يوافق أن أحد أهم عوائق التنمية، هو غياب الحكم التشاركي والتدخل المفرط للدولة المركزية. وتم في رئاسة الجمهورية خلال فترة الرئيس المرزوقي إنجاز دراسة لوضع مقاربة في تنفيذ مبدأ الحكم المحلي والإقليمي الذي تم تضمينه بوضوح في الدستور. المشكل الآن قانون الانتخابات المحلية وتحضيرها يتم في تجاهل لأحكام الدستور. إذ لازالت صلاحيات البلديات ضعيفة وغير مطابقة للدستور. عديد القوى المدنية أشارت إلى ذاك، والحقيقة من الطبيعي أن تساورنا شكوك في مسار من هذا النوع يمكن أن يفضي إلى انتخاب مجالس بلدية، لا تعطي قوة حقيقية للحكم المحلي. 

ثالثا، الفلاحة والصناعات الجديدة. إلى غاية 30 نوفمبر 2015 تم توريد 550 ألف طن من القمح بنسبة زيادة على سنة 2014 من حيث الكمية بـ 31.2 %   وبـ 46.9 % من حيث القيمة. الفلاحة الحقيقة يتم تهميشها رغم أنها قيمة ثابتة؛ فزيت الزيتون هو الذي قلل من الخسائر هذا العام. لكن لا يجب ترك وضع الفلاحة والفلاحين في وضع جامد؛ إذ يساهمون في الإنقاذ ولا يحظون في المقابل بدعم الدولة. وهنا لا يمكن إلا مساندة مطالب الاتحادات الفلاحية؛ لأن ينال الفلاحون دعما حقيقيا خاصة في خلاص القروض، وإعادة هيكلة صندوق الدعم، بما يجعل الدعم موجها لدعمه بشكل مباشر.  عندما كان الدكتور المرزوقي يتحدث عن معركة البذور، كان البعض يسخر منه. يجب أن نضع استراتيجيا وطنية لتثمين بذورنا وهي القيمة المضافة الأصلية لاقتصادنا.. ويجب تعزيزها بصناعات القيمة المضافة مثل تكنولوجيا المعلومات والصناعات الدقيقة. فالسياحة مهمة لكن فقط اقتصاد إنتاجي يقوم على عوامل ومقومات داخلية وليس خارجية فقط هو ضمان المستقبل.  

رابعا، الطاقة والطاقة المتجددة. فاتورة الدعم المباشر للطاقة، وهي نتيجة تراكم عقود من سوء الإدارة والتخطيط (إذ إنّ سياسات الطاقة هي سياسات بعيدة المدى لا تظهر آثارها إلاّ بعد سنين عديدة)، بلغت مثلا 3734 مليون دينار في ميزانيّة الدولة لسنة 2013 (تقريبا 14% من جملة ميزانيّة الدولة)، ممّا يمثّل أكثر من 75000 مواطن شغل قارة. ولإصلاح هذا القطاع يجب الانتقال إلى أعلى درجات الشفافية، وهنا من الضروري وضع قانون يمنع تضارب المصالح ويعاقب الشركات والموظفين المتورّطين، ولوضع قانون للشفافيّة يفرض مستوى من الشفافيّة مماثل لما هو موجود في الدول المتقدّمة، بما يفرض على شركات النفط والغاز نشر جميع معاملاتها. لكن يبقى أهم هدف هو تحقيق انتقال طاقي؛ أي من الطاقة التقليدية إلى الطاقات المتجددة، ويمكن أن يتم ذلك بصندوق الانتقال الطاقي الذي يجب تخصيصه لتشجيع الادخار التونسي والصناعة والتشغيل التونسيين.

خامسا، إصلاح الأراضي والملكيات العقارية. من المعروف أن من بين أكبر عوائق التنمية تعقد وضعية الملكيات العقارية، وقد حضرت رئاسة الجمهورية زمن الدكتور المرزوقي وثيقة لإصلاحها عبر قانون وإجراءات محددة، ويمكن أن نحقق دلك في ظرف خمس سنوات، ودون هدا الإصلاح فإن أي مخططات للتنمية ستبقى قاصرة. 

سادسا، العلاقات الاقتصادية الإقليمية والدولية. الهدف الاستراتيجي سيبقى مشروع الشراكة الاستراتيجية المغاربية ضمن أفق "الحريات الخمس"، التي تجل هذا المجال يؤسس أى اندماج تدريجي. في المقابل هناك ضرورة للتدقيق في حصيلة الاتفاقيات الدولية بما فيها الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي، لبناء شراكة حقيقية تستجيب للمصالح التونسية العليا، بما فيها الحفاظ على المقدرات الوطنية، وللمجال التقليدي للعلاقات التجارية التونسية. في السياق نفسه يجب مواصلة الدفاع عن الحق في التدقيق في الدين الخارجي، وفي الأثناء مواصلة ما قام به الرئيس المرزوقي في تحويل جزء من الديون إلى استثمارات. في المقابل نعتبر أن العالم -ومنه تونس- أمام فرصة تاريخية للاستفادة من النمو المتاح من صعود قوى "البريكس". وفي هذا السياق من البديهي أن هناك مجالا حقيقيا للاستثمار في عمقنا الإفريقي، وقد بادر الدكتور المرزوقي إلى وضع سكة الديبلوماسية الاقتصادية في هذا الإطار، ولو أنه حصل تراجع بعد مغادرته القصر.