الاستبداد ليس مجرد مشكلة فوقية تتمثل في وجود طبقة حاكمة تستفرد بالقرار، إنما أخطر ما فيه أنه ينفذ عميقا إلى كل المكونات النفسية والاجتماعية فيفسدها، مما ينشئ مجتمعا مختل العلاقات، ناشزا عن
العدالة والاستقامة، غير قادر على الحياة الطبيعية أو الإنتاج.
الحرية هي شرط الإنتاج، ذلك أن الأفكار الإبداعية لا تتدفق إلا حين يطلق المرء العنان لفكره الحر دون خشية المحاسبة والمراقبة، لكن ما يحدث في البيئات الاستبدادية أن المرء يكبل نفسه بأغلال داخلية خشية أن تحاسبه
السلطات الحاكمة على رأيه فلا يعود تلقائيا في الحديث والتعبير عن رأيه، إنما تتعارك داخله الدوافع كرجل فيه شركاء متشاكسون، فهو يرتاب قبل إبداء رأيه إن كان هذا الرأي سيجلب رضا الحاكم أم سخطه، وفي هذه الحالة لن نكون أمام آراء حرة نابعة من الإحساس العفوي المباشر، بل أمام حالة زيف وتصنع كبيرة يمثل فيها الناس أنهم يتحدثون ويبدون آراءهم لكن دون أي روح أو أصالة.
في البيئات الاستبدادية يصاب الناس بمرض الازدواجية القاتل، فيظهرون خلاف ما يبطنون ويتقنون صنعة استبدال الوجوه فيحدثون كل قوم في وجوههم ما يسرهم سماعه لا ما ينبغي سماعه، إن الإنسان صنيعة الاستبداد لا يعرف قيمة الصدق مع نفسه، لأنه يعيش حياته وفق مبدأ السلامة والمشي جنب الحيط لا وفق مبدأ الشجاعة في سبيل ما يؤمن به. في أجواء الاستبداد تهيمن أجواء الخوف وانعدام الثقة بين الناس فيشيع بينهم أن كلمة قد تهوي بصاحبها في غياهب النسيان سبعين خريفا، فيخنق الناس قناعاتهم ويتناصحون فيما بينهم بإيثار الصمت والالتفات إلى مصالحهم الخاصة ورغيف عيشهم، وأن يتركوا الحديث في شؤون السياسة لأهل السياسة، أي أن يصبح الوطن ومقدراته ملكا خاصا للحاكم ليس لهم أن يبدوا رأيا أو موقفا تجاهه، ثم يسعى الناس لمخادعة أنفسهم في ظل هذه البيئة غير الطبيعية، فيبحث أحدهم عن مواطن اتفاق مع الحاكم ثم يصوغ رأيا مراعيا أن يكون موافقا لمزاج الحاكم فيبرر انتهاكات العدالة والظلم والفساد الذي تقترفه المنظومة الحاكمة، راجيا أن يرفع خسيسته، وأن ينال احتراما اجتماعيا بإلحاق نفسه بأهل القوة والنفوذ وأن تناله مصلحة، وكثيرا ما ينافق الناس الحاكم ويتناغمون مع رؤيته حتى بدون مصلحة تعود عليهم وبدون خوف حقيقي يسببه الصدق مع أنفسهم، لكنها العبودية المجانية التي تنشئ على صاحبها رقيبا من داخله فتكون نفسه مهتزة مرتابة، يحسبون كل صيحة عليهم ينافق لأن النفاق غدا طبعا متأصلا فيه، ويكذب لأن نفسه تلوثت، فلم يعد قادرا على الصدق حتى حين يكون الصدق يسير التكلفة.
في الأجواء الملوثة بالاستبداد يغيب المنطق ويصبح الحليم حيرانا، تجالس أشخاصا مرموقين ومثقفين وذوي مكانة فيوافقونك على آرائك الثورية، ويسرون إليك بأنهم مستاؤون من الظلم والفساد الذي عم البلاد، ثم تفاجأ بعد ساعة أو ساعتين أن هؤلاء أنفسهم قد تصدروا المحافل العامة وفضاءات الإعلام يثنون على الحاكم ويتغنون بأمجاده العظيمة، فتقلب كفا على كف لا تكاد تصدق أذنيك! ما الذي سيخسره هؤلاء لو حافظوا على اتساقهم مع أنفسهم ووحدوا ظاهرهم مع باطنهم؟ إذن لكسبوا الطمأنينة والراحة النفسية ولنالوا احترام أنفسهم قبل احترام الناس.
الحرية هي التوحيد والاستبداد هو الشرك: "إن الشرك لظلم عظيم"، إن الأفراد والشعوب الذين يعيشون حرية داخلية هم الذين توحدت نفوسهم واتسقت بين ظاهرها وباطنها فلم يعد يمزقهم تعدد الآلهة وتوزع الولاءات، إنهم غير معنيين بإرضاء أحد سوى ضمائرهم، والضمير هو صوت الله المنبعث من داخل الإنسان، وما داموا قد أرضوا الله فلن يهمهم إسخاط الحاكم أو المجتمع، لذلك تجد هؤلاء الأحرار أقوياء روحيا، وإن لم يمتلكوا جاها أو ملكا أو مالا، إنهم أقوياء ببساطة لأنهم لا يعانون من الاهتزاز الداخلي ومن الشعور بضعة النفس والحاجة إلى تملق أحد، قوتهم نابعة من الروح التي في داخلهم لا من الأشياء التي يمتلكونها، إنهم يلقون كلماتهم التي تنبع من أرواحهم الحرة، ويمضون غير عابئين من أرضت ومن أسخطت، ولأن كلماتهم نابضة بالحياة فإنها تترك أثرا عميقا في النفوس، وتحرك الطاقات الساكنة، وتكون قادرة على الإلهام واستثارة كوامن الخير، وحتى لو لم يكن أثر هذه الكلمات آنيا فإنه سيظهر بعد حين، لأنها وحدها الكلمات الصادقة التي خرجت من القلب وما عداها زيف وتصنع.
الاستبداد عدو حتى للفن والجمال، لأن الفن ليس سوى تجل لروح حرة متدفقة، والفن بطبيعته منطلق لا يعرف التقييد والتحديد، بينما مقصد المستبد أن يسخر الناس قدراتهم في التناغم مع أهوائه وتوطيد دعائم سلطانه، لذلك لا يمكن لمستبد أن يسمح بوجود فنان حر طليق متصالح مع روحه إلى مداها الأخير، فإذا التقى الفنان بالمستبد فاعلم غالبا أنه فنان قد خان أمانته وأن منتجه مغشوش.
الاستبداد هو أبو الشرور والمفاسد كلها، ومن مآسي ما أنتجته ثقافتنا أن يقال: مستبد عادل! الاستبداد في ذاته أكبر ظلم وأكبر فساد، فهو الذي يفسد طبائع العباد، ويقتل الروح الإنسانية، فيغدو البشر تحت حكم الاستبداد مجرد نسخ مشوهة ووجوه باهتة لا ترى فيها صدقا أو أصالة أو حرارة شعور، بل ترى وجوها مصفرة تعلو ملامحها الكآبة والخوف والابتسامة الخالية من أي معنى.
يحضرني مثال كوريا الشمالية وكيف تجد شعبها قد برمج على الخوف والذعر من مخالفة مزاج الحاكم، فتجدهم يصفقون إن علموا أن الرقيب يرضيه التصفيق في هذا الموطن أو يبكون أو يحزنون أو يضحكون حسبما يرغب الحاكم ويشاء، فترى وجوههم منكرة هي أقرب إلى الموت منها إلى الحياة، فإذا رهن المحكوم حتى مشاعره العفوية لإرادة الحاكم ومزاجه فماذا يتبقى من الإنسان!
مثال كوريا الشمالية هو الحالة القصوى للتردي الإنساني تحت حكم الاستبداد، لكن علينا ألا نفرح كثيرا بأن أحوالنا العربية أقل سوءا، فالاستبداد يشمل ممارسة أي شكل من أشكال التأثير المباشر أو غير المباشر على حرية إرادة الإنسان، وكل أداة ترغيب أو ترهيب مقصدها دفع الإنسان للتخلي عن رأيه هي قتل لروح الإنسان.
الوضع الطبيعي للإنسان أن يكون تلقائيا في التعبير عن مشاعره وآرائه النابعة من ذاته، هذه هي الطريق الوحيدة التي يوجد بها الإنسان الفاعل المنتج الملهم، فإذا سلطنا على الإنسان سيف الخوف وفتناه عن إيمانه بوسائل الإكراه، فلن تنتج بلادنا إلا كائنات مشوهة مهتزة لا تحسن سوى التصفيق وهز الرؤوس.