ها هي
ثورة يناير تكمل عامها الخامس، وتدخل عاما جديدا من النضال لتحقيق مبادئها السامية.. عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية..
وهاهم رجالها وشبابها ونساؤها يكملون ثورتهم دون كلل أو ملل أو يأس، رغم قسوة القمع الذي يتعرضون له من سلطات
الانقلاب العسكري التي ترى في يناير عدوها اللدود.
كانت يناير وأيامها التالية حتى وقوع الانقلاب العسكري رحلة إلى العالم الآخر، الذي لم نعرفه أو نعشه من قبل، هو عالم الحرية والعزة والكرامة في أبهى صورها، إذ كانت إطلالة على هذا العالم أو لنقل جنة الله في الأرض.
يمكننا أن نقول إنها كانت مجرد عرض ترويجي مجاني محدود المدة (ديمو) لندرك قيمة هذه الحرية، وتلك العزة والكرامة، ولندرك بأنها جميعا تستحق تضحيات أكبر بكثير مما حدث في أيام الثورة الأولى، وها نحن ندفع الثمن راضين، لأننا عرفنا أن السلعة غالية.
من السذاجة أننا تعاملنا مع الثورة باعتبارها فقط أيام التحرير الـ18، فليس منطقيا أن تستغرق ثورة فقط هذه الأيام القليلة، فما يأتي بسهولة يذهب بسهولة أيضا، فكل الثورات الكبرى في التاريخ استغرقت سنوات حتى انتصرت وفرضت مبادئها، فحدث ذلك مع الثورة الفرنسية، والروسية والإيرانية.
على مدى أكثر من ستين عاما من الحكم العسكري، عانى
المصريون صنوفا من العذاب والفقر والجهل والذل والقمع، وصل إلى حد تجسس الأب على ابنه، والأخ على أخيه، والزوجة على زوجها، وبلغت معدلات الفقر مستوى غير مسبوق، وتدهور التعليم والصحة، والخدمات العامة الأخرى، وتجذرت ثقافة الخوف..
وأنتجت أمثال وحكم لها مثل (الحوائط لها آذان) و(الذهاب وراء الشمس لمن يتم اعتقاله) و(الدولة لها أصحاب)، والمقصود هم جنرالات الجيش، و(جيش له دولة)..
وتمكن المصريون عبر نضالهم الممتد من توسيع الهامش الديمقراطي شيئا فشيئا، مع بقاء حكم العسكر، ثم جاءت ثورة يناير لتمثل أول مواجهة حقيقية لحكم العسكر، ولتفتح الباب لحكم مدني ديمقراطي يستند لقاعدة شعبية حقيقية واسعة.
وهكذا جاء انتخاب الرئيس محمد
مرسي أول رئيس مدني لمصر، سعى لتطبيق مبادئ هذا الحكم المدني الرشيد، فشهد عهده أعلى درجات الحرية والتعبير عن الرأي، وتعزز شعور المصريين بعزتهم وكرامتهم، وهو الشعور الذي ولدته ثورة يناير، وبدأ الرئيس مرسي المواجهة تدريجيا مع فساد الجنرالات ودولتهم العميقة، وأطاح برئيسي المخابرات العامة والحربية، ثم برئيس ونائب رئيس وغالية أعضاء المجلس العسكري.
وتمكن حينها من خلع نائب عام مبارك، وبدأ معركة استرداد حقوق الدولة والشعب لدى رجال الأعمال الفاسدين، وكانت سنة واعدة تبشر بتحقيق كل أهداف الثورة إذا أكمل الرئيس مدته.
لكن جنرالات الدولة العميقة الذين يعرفون بالفساد، وتابعيهم من رجال الأعمال الفاسدين، ما كان لهم أن يقبلوا بهكذا أوضاع تطيح بمكتسباتهم التي اختلسوها عبر عقود على حساب الشعب ومقدراته.
فتحركت أذرعهم الإعلامية والسياسية والأمنية لتشويه الثورة ومنجزاتها، وعلى رأسها أول حكم مدني، ونجحت في تضليل قطاع من الشعب، لتتخذ منه دروعا بشرية، وحشودا وهمية، تعطي بها انقلابها المشؤوم على ثورة الشعب، وإرادته.
لكن هذا التضليل لن يصمد طويلا أمام حقائق الواقع المرير التي بدأت في الظهور تباعا، عقب الانقلاب، فالسلطة الغاصبة التي وعدت المصريين بالمن والسلوى، تنتقل بهم في الواقع من فشل إلى فشل، ومن فقر إلى فقر.
فلا استثمار ولا سياحة، ولا صناعة، ولا فرص عمل، ولا قدرة على لجم الأسعار، بل قدرة فائقة على إعادة المهابة والاعتبار لقوى الفساد والتبعية، وبيع الوهم للشعب، بدءا بجهاز الكفتة، ومرورا بتفريعة القناة، والمليون وحدة، والعاصمة الإدارية، وانتهاء بالأربعة ملايين فدان التي لا يعرف أحد من أين سيأتون لها بالمياه، بعد أن خانت سلطة الانقلاب شعبها مجددا، بتنازلها عن حقوق مصر في مياه النيل، وفشلها في مواجهة سد النهضة الإثيوبي.
في مقابل فشل سلطة الانقلاب، علينا أن نعترف بأن السيسي يستمد أسباب بقائه من ضعف معارضيه، فالقوى الرافضة للانقلاب ولحكم العسكر لم تستطع بناء جبهة ثورية قوية قادرة على الإجهاز على هذا الانقلاب، واسترداد المسار الديمقراطي الذي أنتجته ثورة يناير.
ستظل أيام الحرية والكرامة بعد يناير ملهمة، ويوما بعد يوم تزداد القناعة بضرورة دفع أثمان أكبر، لاستعادة تلك الحرية والكرامة، ولاستكمال بقية أهداف الثورة، وصولا إلى مجتمع الرخاء والعدالة والديمقراطية الكاملة.