لا شك بأن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة تدفع حلفاءها إلى حافة الجنون، فقد باتت أعراض القلق والبرانويا جلية على سلوك الحلفاء الأبرز لأمريكا كالسعودية وتركيا، حيث أفشلت أمريكا مقترحات أصدقائها كافة للتوصل إلى حلول ناجعة، على مدى أكثر من خمس سنوات من الصراعات والنزاعات الإقليمية، وخصوصا في
سوريا، بل إن السلوك الأمريكي يذهب بعيدا بالتقارب مع ائتلاف الأعداء التاريخيين للولايات المتحدة كالنظام السوري والإيراني والروسي، ويتماهى مع مصالحهم ويصبح ممثلهم المدافع عن رؤاهم وتصوراتهم لدى الأصدقاء المفترضين.
سلوك الولايات المتحدة في المنطقة يمكن فهمه من خلال متلازمة "عصاب
الإرهاب"، فمنذ هجمات 11 سبتمبر 2001 بات "الإرهاب" صناعة خاصة بالمسلمين عموما والسنة خصوصا، وعلى مدى سنوات من استثمار سياسات "حرب الإرهاب" اقتصاديا وسياسيا وتحويله إلى سلعة وتجارة رأسمالية رائجة ورابحة، يصرف بمزيد من الهيمنة والسيطرة النيوليبرالية المعولمة، استيقظت أمريكا مؤخرا على حالة إرهابوية بدت حقيقية ومرعبة، تمثلت بجهاديي السيطرة والتمكين من جيل تنظيم "الدولة الإسلامية" الذي لم يعد يحفل بالسياسات الجهادية التقليدية، التي استندت على التضامنية والنكائية، وبهذا فقدت الولايات المتحدة القدرة على فهم التحولات الجهادية العميقة، ولم تعد قادرة على التفريق بين توجهات جهادية متكاثرة برزت عقب الانقلاب على ثورات الربيع العربي، وتبلورت عبر فعاليات الثورة السورية، بحيث أصبح كل مسلم سني يقاتل في سوريا يقع تحت مسمى "إرهابي"، وباتت فصائل الثورة السورية كافة إرهابية.
إذا أراد حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة تفسير السلوك العصابي الأمريكي، فعليهم إدراك متلازمة "عصاب الإرهاب"، والكف عن التماهي مع حالة العصاب الأمريكي من خلال تعزيز المخاوف الأمريكية وتقديم مقترحات استشفائية ضارة، عبر مجاراة المرض الأمريكي بالمزاودة عليه واختبار جدية مرضه العصابي الإرهابوي، كمسايرة فرضية "الإرهاب السني" والتبرع بعلاجات "التحالف الإسلامي ضد الإرهاب"، والإصرار على عدالة الثورات العربية عموما والسورية خصوصا، فالعصاب لا دواء له سوى قول الحقيقة، وهي جلية لا مراء فيها، فقد خرج الشعب السوري كما خرجت الشعوب العربية للتخلص من أنظمة دكتاتورية ظالمة فاسدة لم تعد محتملة.
لقد تلبست الولايات المتحدة بحالة عصابية في تعاملها مع قضايا المنطقة، إذ لم تعد ترى فيه سوى عالما مطبوعا بـ"الإرهاب" ومبتلى بـ"الإرهابيين"، بحيث استبد بها الخوف والرعب، وبهذا يمكن فهم السلوك السياسي الأمريكي عبر السلوك العصابي المرضي، فبحسب المحلل النفسي جاك لاكان، عندما تحصل للإنسان أحداث تفوق فهمه وتصوره فإنه يخاف، فهو يتألم من جراء عدم الفهم الذي يعترض سبيله، وشيئا فشيئا يسقط في حالة رعب، وهذا هو العصاب، وفي حالة العصاب الهستيري يصبح البدن عرضة للمرض من جراء الخوف من المرض، رغم أن هذا الإحساس مخالف للواقع. أما في حالة العصاب القهري، فإن الخوف يُقحم في الرأس أشياء غريبة أي أفكارا لايمكن التحكم فيها، ومخاوف تتقمص فيها الأشكال والمواضيع معاني مختلفة ومخيفة.
يبدو أن بعض خبراء التحليل النفسي الأمريكي على دراية بحالة العصاب التي أصابت السياسة الخارجية للولايات المتحدة بخصوص المسألة السورية تحديدا، حيث تم اعتماد آليات علاج تقوم على المنهجية ذاتها، المتبعة بعلاج الشخص العصابي، وذلك من خلال "الكلام"؛ فكما بيّن لاكان استنادا إلى فرويد أن العصابي مريض يعالج بالكلام وابتداء من كلامه بالذات؛ حيث يلزمه أن يتكلم ويحكي ويستفسر نفسه بنفسه، ذلك أن فرويد يحدد التحليل النفسي بكونه تقبل الذات لقصة حياتها، من حيث إن هذه الأخيرة مؤسسة في كلام موجه لآخر، فقد فسر فرويد بأن اللاوعي ليس هو بعميق بقدر ما هو في غير متناول تعمق الوعي له، كما أن اللاوعي من حيث هو متكلٍم، فهو يشكل ذاتا داخل الذات بل وذاتا متعالية عن الذات، لهذا يشكل الكلام القدرة الفائقة للتحليل النفسي، لكن شفاء العصاب النهائي يتحقق بالابتعاد عن العرض وعن المرض، أي عندما يتوصل العصابي إلى الحقيقة.
لا تزال الولايات المتحدة بعيدة عن الوصول إلى الحقيقة كي تدخل حيز الشفاء، فهي لم تتجاوز مرحلة "الكلام"، فكلما تمددت على أسرة المؤتمرات زادت رغبتها في الكلام، فوزير الخارجية الأمريكي جون كيري تكلم بعد زيارته الأخيرة لألمانيا للمشاركة في مؤتمر الأمن الثاني والخمسين، الذي يُعقد في ميونيخ، عن توصل القوى الدولية إلى اتفاق حول وقف إطلاق النار، ودخول المساعدات الإنسانية إلى سوريا، وفي مؤتمر صحفي عقده كيري عقب اجتماع مجموعة دعم سوريا في ميونخ، قال: "يسعدني أن أعلن أنه بعد اجتماع اليوم، فإننا نؤمن بأننا حققنا تطورا على الصعيدين الإنساني ووقف العنف، وأن هذا الاتفاق إن تم تطبيقه بشكل كامل، فإنه سيغير الحياة اليومية للشعب السوري"، لكن كيري عبر تقنيات الشفاء بالكلام أكد أن الاتفاق لا يشمل المنظمات الإرهابية على الأراضي السورية، وشدد على أن الطريق لوقف الحرب الأهلية في البلاد لن يكون سهلا، ولن يكون ممكنا دون انتقال سياسي.
في هذا السياق لا يظفر حلفاء الولايات المتحدة سوى بمزيد من الكلام، بل إن الانتقادات تتعالى في صفوف الأمريكيين من سياسات الكلام، حيث تتزايد الأسئلة المطروحة حول سياسة واشنطن المترددة في سوريا، فخلال شهادته أمام "لجنة الخدمات المسلحة" في مجلس الشيوخ الأمريكي في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2015، أكد وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر ونائب رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال بول سيلفا الفكرة، على أن إدارة الرئيس أوباما "ردعت نفسها" بشكل فعّال عن اتخاذ إجراءات أكثر قوة في الحرب، بما في ذلك التحرك الموصى به كثيرا، وهو إقامة ملاذ آمن في شمال سوريا، وكما قال سيلفا، "لدينا القدرة العسكرية لفرض منطقة حظر جوي. لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه هو: هل لدينا خلفية سياسية وسياسات للقيام بذلك؟"، وقد حالت الإجابة حتى الآن بالنفي، فبحسب جيمس جيفري بين حملة موسكو الضخمة والقصف العشوائي منذ أيلول/سبتمبر، والنجاحات الناتجة عن التحالف السوري الإيراني الروسي، لم تتخذ إدارة أوباما أي إجراء عسكري أو سياسي فعّال لمواجهة تحركات الكرملين. وفي حين لم تكن المواجهة المباشرة لتشكل خطوة حكيمة، إلا أن الردود الأمريكية التقليدية لمثل هذه الاستفزازات عادة ما كانت تشمل انتشارا عسكريا للتفاخر، وخطوات ملموسة لإحباط النصر العسكري الروسي، وجهودا لطمأنة الحلفاء من خلال "وجود" أمريكي. ومع ذلك، لم تتم أي خطوة من هذا القبيل خلال تدخل موسكو في سوريا. وبدلا من ذلك، يبدو أن الإدارة الأمريكية قد ردعت نفسها عن اتخاذ التدابير، الأمر الذي أدى إلى تأثيرات مأساوية على الحرب وآثار من المحتمل أن تكون خطرة على نظام الأمن العالمي الأمريكي بأكمله.
لقد باتت سياسة الكلام الأمريكية محط انتقاد واسع داخل الولايات المتحدة، وتواترت قناعة بأن الرئيس الروسي حقق نصرا فعليا في سوريا، وأصبح ذلك ممكنا بفضل "عجز وتشتت" إدارة الرئيس الأمريكي التي جعلت من سوريا "مقبرة دامية للمعتقدات الأمريكية"، فبحسب روجر كوهين في مقالته بصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في عددها الصادر في 8 فبراير/شباط إن "سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوريا واضحة بشكل كاف، وتتلخص في تعزيز موقف حكومة الرئيس السوري بشار الأسد والاستمرار في قصف مواقع المعارضة حتى الاستسلام، وقطع أي محاولات للغرب في تغيير النظام باستخدام "الثرثرة" الدبلوماسية في جنيف، ومنع تغيير الوضع في سوريا، كما أن سياسة الرئيس الروسي في سوريا يصبح من الصعب عدم تمييزها عن سياسة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فإعلانات الولايات المتحدة "مجرد كلام"، وفعليا "من يطلب الموسيقى في سوريا" هو بوتين، ويرجع ذلك إلى عدم وجود سياسة واضحة لأوباما.
سياسة الكلام الأمريكية وضعت حلفاءها على طريق الجنون، فقد باتت متلبسة بعصاب الإرهاب، وضلت طريقها تماما وأصبحت شريكا مطيعا لأعداء الشعب السوري، وهي منخرطة في الدفاع عن خيارات بائسة وغير ممكنة، فهي من أفشلت محادثات جنيف 3 مسبقا، فبحسب ستيفن هايدمان الذي كتب مقالا في مجلة "فورين بوليسي"، قبل انعقاد المؤتمر قال فيه: إن النجاح في جنيف غير مرجح، ليس بسبب تصلب المعارضة، بل لأن إدارة أوباما زادت من احتمالات الفشل، فميلها الأخير تجاه موقف روسيا من مصير الرئيس بشار الأسد ــ القبول بدور مستقبلي له في الانتقال السياسي ــ قوّض مقومات النجاح، وأضرّ بالمصداقية الأمريكية لدى المعارضة، وتسبب في تآكل النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط. هذه النقلة في السياسة الأمريكية جعلت التسوية عن طريق التفاوض أمرا أقل احتمالا، بل أسوأ من ذلك، فقد تحفّز لاستمرار التصعيد في النزاع السوري.
لا يزال حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة عاجزين عن فهم حالة العصاب الإرهابوي السني التي أصابت السياسة الأمريكية، فقد أفشلت الولايات المتحدة المحاولات التركية كافة بإقامة منطقة آمنة، وتخلت عن الشريك التركي في حلف الناتو وقامت بنسج علاقات وثيقة مع حركات كردية موضوعة على لائحة الإرهاب، فقد انتقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشدة الدعم الأمريكي لحزب الاتحاد الديمقراطي السوري الكردي، معتبرا أن سياسة الولايات المتحدة حولت المنطقة إلى "بركة دماء"، وقال أردوغان في خطاب ألقاه الأربعاء الماضي في أنقرة أمام مسؤولين إقليميين: إن عجز الولايات المتحدة عن فهم طبيعة حزب الاتحاد الديمقراطي السوري الكردي وحزب العمال الكردستاني، أدخل المنطقة في "بحر من الدماء"، وتساءل الرئيس التركي عما إذا كانت واشنطن تقف إلى جانب
تركيا في الحرب على الإرهاب، أم إلى جانب حزب الاتحاد الديمقراطي الإرهابي، وذلك في إشارة لدعم واشنطن لمقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، التي ترتبط بحزب العمال الكردستاني.
أما الحليف الأوثق للولايات المتحدة في المنطقة وهو
السعودية، فقد بات قلقا ومتشككا بحالة العصاب الأمريكي، دفعته إلى حافة الجنون، فقد أثار الاتفاق النووي مع إيران الشعور السعودي بأن الولايات المتحدة الامريكية تعيد التفكير في العلاقة الأساسية القائمة بين البلدين، وفي زيارات عديدة إلى واشنطن، تساءل المسؤولون السعوديون بشكل علني عمّا إذا كان بإمكانها الاعتماد على حليفهم الأمريكي، ومنذ توقيع الاتفاق النووي مع إيران عمدت إدارة أوباما إلى طمأنة السعودية مرارا وتكرارا، بأنها لن تتخلى عنهم، وأنها ستبيع لهم أسلحة أكثر من أي وقت مضى، وعلى الصعيد الواقعي انتقدت أمريكا بشدة التدخل السعودي في اليمن.
خلاصة القول، إن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة تدفع حلفاءها إلى حافة الجنون، فقد باتت أعراص القلق والبرانويا جلية على سلوك الحلفاء الأبرز لأمريكا كالسعودية وتركيا، حيث أفشلت أمريكا مقترحات أصدقائها كافة للتوصل إلى حلول ناجعة، على مدى أكثر من خمس سنوات من الصراعات والنزاعات الإقليمية، وخصوصا في سوريا، بل إن السلوك الأمريكي يذهب بعيدا بالتقارب مع ائتلاف الأعداء التاريخيين للولايات المتحدة كالنظام السوري والإيراني والروسي، ويتماهى مع مصالحهم ويصبح ممثلهم المدافع عن رؤاهم وتصوراتهم لدى الأصدقاء المفترضين، فسلوك الولايات المتحدة في المنطقة يمكن فهمه من خلال متلازمة "عصاب الإرهاب"، حيث بات "الإرهاب" صناعة خاصة بالمسلمين عموما والسنة خصوصا، وحلفاء أمريكا ينتمون إلى هذه الفئة، ولن تشفى حالة العصاب الأمريكي بالثرثرة والكلام، وإنما بالحقيقة والإقدام.