قضايا وآراء

التمثال المفقود في لندن

1300x600
 توجد حديقة كبيرة أمام مقر البرلمان البريطاني في وسط لندن تحتوي تماثيل لشخصيات بريطانية شهيرة تمثل الامبراطورية البريطانية في عنفوانها، ومنها تمثال رئيس الوزراء البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية وينستون تشرشل. غير أن اللافت هو إقامة تمثاليين جديدين، خلال السنوات الماضية، لشخصيتين دخلتا في صراع مع هذه الامبراطورية لأسباب تتعلق باستقلال أوطانهما، وهما الزعيم الهندي المهاتما غاندي والزعيم الجنوب أفريقي نيسلون مانديلا.

يمثل حضور هذين التمثالين نوعا من القطيعة التي تحاول بريطانيا أن تقيمها مع ماضيها الاستعماري. وهما يمثلان خطوتين هامتين قطعتهما أمتان نحو تحقيق نموذج من الاستقلال والتعايش  إحداهما في آسيا وهي الهند والأخرى في أفريقيا وهي دولة جنوب أفريقيا. وللأسف لا يوجد حضور لتمثال يجسد تحقيق هدف مشابه في الدول العربية في حقبة التحرر من الاستعمار وحتى الآن. والمقصود هنا الوصول إلى صيغة استقلال مبني على التعايش وليس الصراع. فقد كانت التجربة الهندية اللاعنفية مع غاندي مفتاحا لشكل الدولة الديموقراطية الحديثة هناك وتجربة جنوب أفريقيا في المصالحة والتعايش مفتاحا لتجاوز حقبة الفصل العنصري.

وينبغي التنبيه إلى أن المسلمين هناك جزء هام من نجاح كلتا التجربتين على المستويين الشعبي والقيادي. فعبد الغفار خان زعيم جماعة خدام الله  كان رفيق غاندي في كفاحه اللاعنفي وكان يؤصل لذلك إسلاميا، بينما كان أحمد كاثرادا رفيقا لنيلسون مانديلا في سجنه وفي نضاله ضد نظام الفصل العنصري. الأمر الذي يبين أن إخفاق العرب في صياغة نموذج مشابه لا يتعلق بدينهم وإنما بمجهودهم في هذا الإطار.

لقد شغلت قضايا الاستقلال الوطني الجيل الأول من المناضلين العرب، وكان مبتدأ الكلام هو تحقيق الاستقلال السياسي وجلاء الاحتلال الأجنبي كمفتاح لأي تقدم ونهضة. ولا تزال الدولة العربية الحديثة من جهة والحركات السياسية التي نشأت في الحقبة الاستعمارية أسيرة لهذه الرؤية. إذ يرى كلاهما في الاحتلال العسكري المباشر الكابوس الذي ينبغي توجيه كافة الطاقات لتجنبه وأنه طالما أن هناك جيشا وطنيا وعلما مرفرفا وأجهزة بيروقراطية فإننا أما قدر من الاستقلال الوطني تنفع معه محاولات الإصلاح.

وعندما مضت السنون وكشرت الدولة العربية الحديثة عن أنيابها، وكشفت أنها ليست بأحسن حال من الاستعمار من ناحية مستوى القمع الذي تصل إليه وارتمائها في أحضان المستعمر القديم والجديد، ظهرت مدارس فكرية عدة تحاول تجاوزها والخروج عليها إما على أساس ديني كما هو الحال في التيارات الإسلامية العنيفة في السبعينيات وحتى تنظيم القاعدة وداعش في السنوات الأخيرة أو من منطلقات يسارية مثل عدد من التيارات اليسارية التي لا تحظى بقاعدة جماهيرية واسعة في العديد من البلدان العربية.

وحين تعثرت التجربة الديموقراطية في مصر بعد ثورة يناير، اندفع كثير من شباب الإسلاميين لتبنى تلك الأفكار القديمة ذاتها التي يئست من أي إصلاح لبنية الدولة العربية الحديثة. وهو ما طرح السؤال لديهم بشكل أكثر تعقيدا: ماذا نفعل إن كان العنف لم يأت بنتيجة سابقا ولا النضال السياسي حاليا؟ ولم يطرح كثيرون سؤال آخر ربما يكون مفتاحا للإجابة على هذين السؤالين وهو: وهل كانت المطالبات النضالية القديمة للاستقلال واقعية وصحيحة أم لا؟ وذلك لأن النقاش قد يكون مفيدا وأكثر ثراء لو أعدنا تقييم شكل الاستقلال الذي حصلت عليه الدول العربية والأسس التي قامت عليها الدول حينئذ.
في تلك الحقب الزمنية كانت فكرة الوطن ذات مركزية في التفكير والحركة عند معظم المناضلين.

وكانت القناعة أن أشكال التضحية من أجله جهاد ونضال سامي. كما أن حرية واستقلال أفراد هذا الوطن مرتبطة وجودا وعدما بهذا الوطن ومصيره وليس العكس. وربما يفسر هذا الأمر سكوت كثير من حركات التحرر الوطني على انتهاكات لحقوق الإنسان عديدة في إطار عملية بناء الدولة؛ وذلك على اعتبار أنه ثمن لابد للجماهير أن تدفعه من أجل الغاية السامية وهي الوطن. ويمكنك أن تحذف كلمة الوطن وتضع الأمة أو الدين ليستقيم المعنى عند كثير من الإسلاميين مع الاتفاق على الممارسات ذاتها باعتبارها بعض الاستثناءات التي لا مفر من وجودها. وهي قناعات لا تزال راسخة عند كثيرين للأسف وتستخدمها الدولة القمعية لتبرير انتهاكاتها بحق مواطنيها.

لنتصور كيف سيكون الواقع الحالي لو كانت تلك المعادلة معكوسة منذ البداية؛ وكان محور الاهتمام والتحرر هو الإنسان العربي ذاته بشكل لا يقبل المساومة. وأنه مهما بغلت الغايات السامية للدولة الناشئة فإنها لا تساوي شيئا أمام انتهاك لأحد أفرادها. ومن العجيب أن تندلع ثورات شبابية جديدة بسبب شرارات انتهاك حقوق أفراد ثم يتم التحجج بكيان هلامي هو الحفاظ على الدولة العربية الحديثة لتبرير استمرار القمع.

لقد رفعت حركات الاستقلال قديما شعار حق تقرير المصير، وما أحوجنا الآن لرفع شعار تحرير الإنسان العربي من أغلال الظلم الواقع عليه أيا كان مصدره، وأن تتبنى الحركات الوطنية الأجندة الحقوقية كمطلب أول في نضالها. وأن يتم اعتبار الحركات الحقوقية حركات تحرر وطني بالإساس قبل أن تكون مكاتب محاماة يلجأ إليها المتضررون بعد أن تسد أمامهم السبل لاستصدار تقرير حقوقي أو رفع دعوى.

وإذا كان النضال الوطني القديم قد أخفق في وضع حرية الإنسان موضع المركز في حركته، فأمام المناضلين الحاليين فرصة لإعادة تصحيح هذا الأمر. فقد أثبتت التجربة أن الحركات السياسية في مثل بيئاتنا تعيد إنتاج القمع بشكل آلي في حال وصولها للسلطة مصحوبا بتبريرات شتى. ثم ما يلبث هذا القمع أن يكون سببا في إخفاق الدول وربما عودة الاستعمار القديم في سيرته الأولى كما رأينا في الحالة العراقية، أو بشكل أسواء من الشكل القديم كما في الحالة السورية.