كتاب عربي 21

تونس.. هيبة الدولة تحت نعل "البلجيكي"

1300x600
"البلجيكي" وما أدراك ما البلجيكي ... هو حديث الساعة في مهد الثورة تونس بعد أن تمكّن الإرهابي الأوروبي من الحصول على براءة سحرية جادت بها دولة العمق التي تتحكم في أوصال ما تبقى من الثورة التونسية. 

أصل الحكاية أن تقبض السلطات التونسية في ميناء رادس على مجرورة متوجهة نحو مدينة نابل السياحية الساحلية. الحاوية  "المجرورة" كانت معبأة بالأسلحة الحربية من رشاشات وقنابل وآلاف الخراطيش والطائرات المسيرة وآلات الغوص وقنابل الغاز... . كما حازت السلطات الأمنية على عدد من الجوازات المزوّرة ومواد أخرى لم تبلغ إلى العلن بعد أن عرضت التلفزة الوطنية بالصوت والصورة المحجوزات الخطيرة في نشرة الساعة الثامنة.

الصدمة الأولى كانت كبيرة في أوساط التونسيين بأن تتورط القوى الغربية في الإرهاب الذي يضرب البلد منذ فجر الثورة؛ لأن الحادثة على خطورتها تؤكد الروايات القديمة التي تعترف بأن الإرهاب الذي يضرب تونس إنما هو إرهاب صناعي خارجي في أصل نشأته، وأن قوى غربية ودولا أوروبية متورطة فيه بشكل مباشر. 

الصدمة الأولى لاكتشاف مخازن الأسلحة القادمة من الخارج لم تشمل النخب المطلعة على الملف الإرهاب في تونس، فالجميع يعلم أنه سلاح الثورة المضادة وداعميها من القوى الدولية من أجل الإجهاض على المكسب الثوري وذبحه في المهد. فالخلايا الصناعية التي تم زرعها في نطاق المنجز الثوري إنما تستهدف كذلك استقطاب المجموعات اليائسة من الشباب المعطل الذي خرج للتو من المنظومة التربوية والتعليمية الفاشلة للنظام الاستبدادي لحقبتي "بورقيبة " و" بن علي".

الصدمة لم تقف عند هذا الحد، بل كانت الطامة الكبرى لدى الرأي العام عندما قررت سلطات الدولة العميقة في تونس تبرئة الرجل وإيهام الرأي العام بأن الأسلحة المحجوزة لم تكن سوى لعب بلاستيكية في هيئة أسلحة حربية. 

المشهد سريالي إلى حد بعيد وهو ما أطلق على صفحات التواصل الاجتماعي وابلا من النكات والطرائف المتعلقة بالحالة الرثة والمزرية التي صار عليها قضاء دولة الأعماق في تونس، حيث يُسجن الناشطون المدنيون بتهم سخيفة، مثل كتابة رأي على الفيسبوك في حين يطلق سراح أفراد العصابات ممن نهبوا أموال التونسيين وصادروا نهضتهم، بل الأدهى والأمر هو أن يطلق سراح المجرمين الدوليين من مهربي الأسلحة وصانعي الإرهاب الحقيقيين؛ بسبب الحماية الدولية التي يتمتعون بها في إطار الاحتضان العالمي للإرهاب وصانعيه.

الحادثة إذن على درجة قصوى من الخطورة في دلالاتها وفيما تكشفه من حجم الاختراق في أعلى هرم الدولة، خاصة مع ما يوازيها من سعي أجهزة الدولة العميقة المحموم من أجل التستر على الموضوع وتلهية الرأي العام بقضايا جانبية بهدف وأد القضية في المهد. الحادث عنوان كبير على فشل الدولة، ودليل لا يقبل الدحض على أن الإرهاب الذي يضرب تونس إنما هو إنتاج دولي بتواطؤ خلايا داخلية تقع في مفاصل الدولة وخاصة الأجهزة الأمنية منها. 

فتصريح مسؤول كبير بالجمارك التونسية بأن " اللعبة أكبر من الجميع ومن الدولة نفسها " هو شهادة من داخل الدولة بأن ملف الإرهاب والسهر على تنفيذه في تونس إنما يتجاوزها تماما مثلما هو حال " ملف القناصة " الذين قتلوا عشرات الشهداء خلال الثورة وأغلق الملف نهائيا اليوم. 

بناء عليه فإن شعار "هيبة الدولة" الذي يطرحه نظام الثورة المضادة في شكله الجديد إنما يمثل أكذوبة كبيرة هدفها استعادة المجال القديم الذي اكتسحه المد الثوري. هيبة الدولة التي تعني ضمن ما تعنيه احترام القانون والمؤسسات وممثلي القانون إنما تسقط كل يوم في مهد الثورة بيد الدولة نفسها لا بيد الشعب حيث تداس نصوص الدستور وفصوله التي تعرّف الإرهاب والإرهابي تعريفا صريحا ينطبق كل الانطباق على المجرم البلجيكي.

لكن الثابت الأكيد هو أن دولة داخل الدولة تحكمُ المؤسسات وتحكم تفاصيل المسار الانتقالي الدقيق وهي دولة تأتمر بأوامر الخارج وتحدد مصير الثورة والدولة عبر سفاراتها في تونس. فعندما قرّر الخارجُ إطلاق سراح الإرهابي البلجيكي انصاع الداخل التونسي ضاربا بعرض الخارج هيبة الدولة التي لا يتغنّى بها إلا أمام الفقراء من التونسيين وأمام المتهمين زورا بتهم الإرهاب وهم يسحلون في زنازين التعذيب التي كشفها رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء.

الواضح أيضا أن ملف الإرهاب كان الأداة الأساسية لتركيع الثورة وحبس أنفاسها بشكل موازي مع سلسلة الاعتصامات والحرائق الاقتصادية والاجتماعية التي أضرمتها الاتحادات النقابية في كل ربوع البلاد. اليوم يطالبُ كل قطاع اجتماعي ومهني بمطالب معجّزة للدولة وللمجموعة الوطنية فقد أضرب عمال الحضائر والأطباء والأساتذة والمعلمون والممرضون وحتى الأمنيون ... وكل القطاعات الأخرى بشكل كان الهدف منه طعن المسار الانتقالي واستغلال وضعيات اجتماعية بائسة تعود إلى حقبة السابع من نوفمبر من أجل تدمير الدولة وتدمير إمكانيات النهوض. 

هكذا يتحالف الإرهابان الخارجي و الداخلي أي "تونسي والبلجيكي" من أجل منع الثورة التونسية من تحقيق شعاراتها، ومن أجل خلق نزيف لا ينتهي هدفه أن يذبح الوطن نفسه بأدوات الدولة العميقة وخناجرها وببقايا نظام "بن علي" ونخبه المزيفة. 

إن الإرهابيْن الصناعي والطبيعي اللذين يهدفان إلى إحلال الفوضى والخراب حتى يندم العربي على الثورة خوفا من الغول الداعشي المتربص يمثلان آخر أسلحة الاستعمار ووكلائه على الأرض العربية في سبيل أن يطول تخدير الجماهير فتُستنزَف ثرواتها وخيرات أبنائها. لكن الثورات لم تقل بعدُ كلمتها الأخيرة وهي ترى أمامها كيف يُذبح الإنسان العربي لمجرد مطالبته بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.