يبدو الأمر كما لو كان اعتقادا ساد أو قناعة تامة لدى قيادات
مصر بأن الشعب غير مؤهل للديمقراطية، تتغير الأسماء، وتتبدل المناسبات، ولكن الفكرة واحدة ثابتة، قالها من قبل أحمد نظيف رئيس وزراء مصر في عهد مبارك، وأشار إليها عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية ومدير المخابرات العامة في آخر أيام مبارك، وها هو الرئيس المصري عبدالفتاح
السيسي يكرر المعنى نفسه، في حديث لمجلة جون أفريك الفرنسية في عددها الأخير وقال نصا: «إن
الديمقراطية الحقيقة في مصر ستتحقق خلال 25 عاما»، واعتبر أن هذا مدى قصير لتحقيق هذا الهدف بشكل كامل، باعتبار أن الديمقراطية عملية طويلة، وأنه يريد أن يعطي النموذج لخلفائه، ولكن تجربته في الحكم قصيرة لن تستمر سوى أربعة سنوات، واشترط لتحقيق الديمقراطية تحسين التعليم، ومكافحة الفقر والفساد، وتبني معايير حقوق الإنسان في إطار ظروف وطبيعة المجتمع.
ما قاله السيسي للمجلة الفرنسية يتناقض تماما مع مضمون خطابه قبلها بأيام قليلة أمام البرلمان المصري، عندما أشار إلى الانتخابات البرلمانية التي تمت في أجواء شفافة شهد لها العالم، وأن الشعب المصري يعلن للعالم أنه أرسى قواعد نظامه الديمقراطي، وأعاد بناء مؤسسات الدولة الدستورية، وقال أيضا: «لقد استطاع شعبنا العظيم أن ينتصر للحرية والديمقراطية»، وتحدث عن توازن السلطات في مصر تحت مظلة الديمقراطية، التي ناضلت من أجلها الجماهير وحصلت عليها كمكتسب لها لن تفرط فيه أبدا!»، ويبدو أننا أمام لغتين: الأولى للشعب المصري يتغنى فيه حكامه بما تم إنجازه على صعيد الديمقراطية، وآخر للغرب يقدم مبررا لكل التجاوزات التي تشهدها الساحة السياسية، من تقييد للحريات العامة، وتهميش لدور المعارضة والتنكيل بالمعارضين، تحت ستار وبحجة أن الشعب المصري ما زال أمامه طريق طويل للوصول إلى الديمقراطية.
الكلام السابق يثير العديد من الملاحظات التي تستدعي التوقف عندها، ومنها:
أولا: ينسى حكام مصر ومنهم الرئيس عبدالفتاح السيسي أنهم في حاجة إلى «تنشيط ذاكرتهم»، فمصر من أوائل الدول التي سارت في طريق الديمقراطية، وإن إنشاء أول برلمان كان في القرن التاسع عشر، وشهدت تجربة حزبية متميزة خلال تلك الفترة، حزب أغلبية هو الوفد وأحزاب صغيرة وانتخابات برلمانية، تم ذلك وهي تحت الاحتلال البريطاني، وفي ظل وجود نظام ملكي.
ثانيا: أن مصر إذا كانت تعود إلى الخلف فالمسؤولية عن ذلك ترجع إلى المؤسسة العسكرية ومنذ ثورة يوليو 1952، والتي يخرج منها حكام مصر منذ ذلك التاريخ، بداية من تجربة عبدالناصر الذي ألغى الأحزاب، وأمم الحياة السياسية، وأقر فلسفة التنظيم السياسي الواحد بمسمى الاتحاد القومي أو الاشتراكي، وحتى عندما طور السادات النظام، التزم بالتعدد الحزبي المقيد أو المفتوح شكلا. أما مضمونا، فالدولة لم تتخل عن تدخلها عبر الأجهزة الأمنية وما كان يسمى بلجنة الأحزاب، وهي شبه رسمية في كل ما يتعلق بشؤونها، وهو الأمر الذي ينطبق على كل توابعها من انتخابات برلمانية أو محلية.
ثالثا: إن تحقيق الديمقراطية لا يتعلق من قريب أو بعيد، بقضايا تدني مستوى التعليم أو ارتفاع معدلات الفقر، فهناك تجارب ديمقراطية مهمة في دولة مثل الهند وتعاني ظروفا اقتصادية واجتماعية مشابهة لما هو في مصر، ولكنها عملية تراكمية تخضع لإرادة سياسية من النخبة الحاكمة، كما أن الديمقراطية أصبحت أسلوب حياة، وطريقة حكم في العديد من الدول الإفريقية، وهي ليست أسعد حالا من مصر.
وتبقى الملحوظة الأخيرة حول طبيعية الإجراءات التي تم من خلالها انتخابات الرئاسة أو البرلمان في مصر، هل هي ديمقراطية كما هو الخطاب المحلي، أو لا ينطبق عليها ذلك؟ فهذا يعني مباشرة تشكيكا في شرعيتها.
(عن صحيفة العرب القطرية ـ 25 شباط/ فبراير 2016)