ظل الاعتقاد سائدا في
المغرب على أن
الدبلوماسية وكل ما يدخل ضمن دائرتها شأن خاص، ومجال محفوظ للملك، وأن صناعة القرار في
السياسة الخارجية تنطلق من المؤسسة
الملكية ويعود أمر الفصل فيها إلى الملك وحده، وقد ذهب مناصرو هذا الفهم إلى حد تأويل أحكام الدستور ذات العلاقة بما يخدم هذا الاعتقاد. وأذكر جيدا كيف كانت تُواجه بجفاء وتبرّم الأصوات الداعية إلى جعل الدبلوماسية شأنا عاما، ومجالا مفتوحا أمام ممثلي الشعب والفاعلين السياسيين. غير أن هذا الفهم سرعان ما بدأ يفقد هيمنته لصالح ثقافة جديدة، تعتبر صناعة السياسة الخارجية عملا مشتركا، يساهم الملك بمقتضى الدستور في رسم توجهاته الإستراتيجية، وتُشارك المؤسسات الدستورية (البرلمان والحكومة) والفاعلون السياسيون في الاقتراح، والإعداد، والتنفيذ، والمساءلة.
نلمس هذا التحول في مقاربة الشأن الدبلوماسي منذ بداية الألفية الجديدة، حيث عَلَت دعوات تأهيل صناعة السياسة الخارجية المغربية، وإعادة بناء شبكة العلاقات الدولية للمغرب، وتفعيل أداء الإطارات الدبلوماسية الموازية لتسويق صورة المغرب، والدفاع بقوة الإقناع عن قضاياه الوطنية الكبرى. والواقع أن قائمة الإنجازات الحاصلة نتيجة هذه الثقافة الجديدة واضحة وملموسة. نذكر منها حصول المغرب على صفة "الوضع المتقدم" Statut Avance بداخل منظومة الاتحاد الأوروبي عام 2008، وتمكنه من نسج شبكة علاقات سياسية واقتصادية فعالة ومُثمرة مع الفضاء الإفريقي، لاسيما في مجموعة دول غرب إفريقيا، علاوة على تسجيله طفرات دبلوماسية واعِدَةً في العالم الآسيوي، وبلدان أمريكا الوسطى والجنوبية. ويمكن إضافة خطوات أخرى متكاملة مع ما سلف بيانُه يتعلق الأمر بالدور المتنامي للمغرب في المساهمة في الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب الذي يضرب دول جنوب أفريقيا والساحل، ويتوق إلى بسط وجوده في بعض أقطار المغرب الكبير، تحديدا في كل من ليبيا وتونس.
في مستطاع متابع السياسة الخارجية المغربية أن يلمس مظاهر هذا التغير، ويدرك أبعاده المباشرة والضمنية. ففي السنتين الأخيرتين (2015 و2016) تعاقب أكثر من حدث دال على المسار الجديد للدبلوماسية المغربية. نستحضر مثلا كيف أوقف المغرب شركة "إيكيا" متعددة الجنسية من أصل سويدي من ممارسة نشاطها على أرضه، بسبب معاداة البرلمان السويدي ملف الوحدة الترابية للمغرب، حدث هذا الموقف أواخر أيلول/ سبتمبر 2015، ولم يقع التراجع عن هذا الإجراء إلا مطلع العام 2016 حين أفضت مناقشات البرلمان السويدي إلى تجنب معاداة المغرب ومناكفته في الدفاع عن ملفه الترابي. ولعل التوجه نفسه نلمسه، قبل المثال السويدي، في التوتر الحاصل مع فرنسا حين تمّ تعليق التعاون القضائي المغربي الفرنسي عام 2014، ولم يُستَأنف إلا سنة 2015، بعدما اعتذرت السلطات الفرنسية بشكل غير مباشر عن توقيف مدير الاستخبارات الداخلية المغربية، فقامت باستضافته ومنحته وسام الجمهورية الفرنسية.
لا شك أن الشهرين الأخيرين كان لهما الأثر الواضح في إبراز التغير الحاصل في مسار الدبلوماسية المغربية. فمن جهة، أفضى التوتر بين الاتحاد الأوروبي والمغرب إلى إيقاف التواصل بين الطرفين، بسبب إصدار المحكمة الأوروبية في 15 شباط/ فبراير 2016 حكما ابتدائيا يقضي بعدم الاستمرار في تنفيذ الاتفاق الفلاحي المبرم بين الطرفين منذ سنة 2012. ولأن مسوغات موقف محكمة العدل الأوروبية تأسست، كما لاحظت العديد من الأوساط القانونية والحقوقية، على اعتبارات سياسية، فقد لجأ المغرب، حماية لمصالحه، إلى الموقف الذي لجأ إليه، أي إيقاف التواصل مع الطرف الأوروبي إلى حين رجوع الأمور إلى نصابها، وهذا ما حصل في أعقاب زيارة الممثلة السامية للاتحاد الأوروبي المكلفة بالسياسة الخارجية "فيديريكا موغريني" الرباط في 4 آذار/ مارس 2016، وعودة الدفء إلى العلاقات المغربية الأوروبية، في انتظار إلغاء الاستئناف القرار الابتدائي لمحكمة العدل الأوروبية.
ومن جهة ثانية، خلقت تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" خلال زيارته الأخيرة لبعض دول المنطقة المغاربية، ردود فعل سياسية وشعبية عارمة، بسبب خروجه عن إطار الحياد الإيجابي الوارد في أحكام الميثاق الأممي، لاسيما الفصلين التاسع والمائة. فقد كان الغرض من الزيارة الوقوف في عين المكان عند أوضاع النزاع الذي تجاوز عُمره الأربعين سنة، بُغية استطلاع سبُل الدفع بالحلول المقترحة في شأنه نحو الأمام.
ليست الوقائع أعلاه سوى أمثلة يمكن الاستدلال بها لقياس التغير الهادئ الحاصِل في الدبلوماسية المغربية، وهو تغير انطلقت دينامياته، في تقديرنا، منذ بداية العشرية الأولى للألفية الثالثة، وتعمقت فلسفته أكثر مع صياغة الدستور الأخير لعام 2011. فهكذا سمح انتقال السلطة بعد وفاة الملك الراحل الحسن الثاني بإمكانية فتح صفحة جديدة في مسار الدبلوماسية المغربية، بدأت أولا بالتخلي التدريجي عن التصور التقليدي القاضي باعتبار السياسة الخارجية مجالا محفوظا للملك، والعمل على جعلها عملا مفتوحا، مُقتسما بين الفاعلين في المجال السياسي المغربي، تصاغ قراراته بالتشاور، والحوار، دون أن ينتقص ذلك من الدور الاستراتيجي الذي يمنحه الدستور للملك في هذا الميدان. لذلك، بدأنا نلاحظ حصول مساهمة متدرجة للبرلمان والحكومة في صناعة السياسات العمومية ذات العلاقة بالشأن الخارجي، كما لاحظنا الدور المتصاعد لما يُسمى بالدبلوماسية الموازية الموكولة لمنظمات المجتمع المدني، ومبادرات المواطنين بشكل عام، وهو ما لم يكن مألوفا في السابق. وقد تعزز هذا التوجه الجديد للدبلوماسية المغربية، وتعمقت إمكاناته أكثر مع صدور الدستور الجديد لعام 2011، الذي وسّع دائرة اختصاصات مؤسستي البرلمان والحكومة، وربط مسؤوليتيهما بالمساءلة والمحاسبة، ورفع مكانة المجتمع المدني، وهيئات التمثيلية والوساطة..إنه تغير نوعي جديد للدبلوماسية المغربية من شأنه، إن تعمق وترسخت ممارستُه أكثر، أن يجعل صناعة السياسة الخارجية شأنا مشتركا، ويعزز تاليا مكانة المغرب الدولية، ويقوي أداءها.