في الأيام التي تلت عودتي من المهجر اتصل بالعائلة أحد الإطارات الأمنية وطلب مقابلة الوالد رحمه الله وطلب أن تكون المقابلة بحضور كل أفراد العائلة جاء الموعد ولما دخل الرجل تكهرب الجو إذ تبين أنه أحد الذين كانوا يترددون على البيت في إطار سياسة الانتقام والتنكيل التي انتهجت ضد عائلات المعارضين السياسيين اللاجئين خارج تونس، وقد تعرضت عائلتي إلى ضروب من الإرهاب والترويع. فخلال سنوات طويلة منذ 1991 إلى غاية الجمعة 13 أكتوبر 2006 وقعت مداهمة المنزل في آخر الليل بمعدل مرتين في الشهر مصحوبة بالإهانات وتكسير الأثاث وضرب والديّ وإخوتي.
فإضافة إلى الإهانات التي كان يتلقاها الوالد عند مداهمة المنزل وقع أخذه إلى محلات وزارة الداخلية أكثر من مرة وفيها تعرض للضرب المبرح والإهانات ما تسبب له في عديد الأزمات الصحية ما تسبب في إصابته بأمراض عديدة منها السكري وضغط الدم كما باكتئاب حاد لازمه فترة طويلة وجعله يمتنع عن الكلام والخروج إلى الشارع.
وفي كل الحالات كان خروجه إلى الشارع أو جلوسه في المقهى أو حتى ذهابه للصلاة في المسجد يجلب له وللمكان الذي يحل فيه متاعب جمة حتى وصل الأمر بصاحب مقهى الحي أن طلب منه عدم المجيء خوف الشبهة.
وقد امتد التنكيل ليشمل عائلة زوجتي إذ اعتقل أخوها بسبب حضوره حفل زفافنا بلندن وحكم عليه بعشر سنوات سجنا قضى منها أربع سنوات كاملة وقد كان السجناء السياسيون يتندرون عليه لأنه يذكرهم بشريط عادل إمام "احنا بتوع الأوتوبيس".
إضافة إلى ذلك فقد وقع عزل العائلة عزلا تاما إذ كلف بعض الجوار بمراقبة المنزل و تتم متابعة كل فرد من أفراد العائلة واعتقال أي شخص يتصل بهم أو يزور البيت كما منع كل أفراد العائلة من استخراج جوازات السفر لأكثر من عشر سنوات.
في يوم 23 ديسمبر 1996 تم اعتقال والدتي رحمها الله بصحبة ابنها الأصغر حيث وقع استنطاقها والاعتداء عليها بالضرب ما تسبب في كسر أسنانها. وفي نفس الوقت وقع تعذيب أخي في غرفة مجاورة بينما كانت أمه تسمع صياحه.
عادت كل هذه الذكريات المؤلمة إلى سطح ذاكرة كل من كان في البيت يومها ولكن الجميع انتظر رد فعل الوالد.. تقدم نحوه الرجل وقبل جبينه قائلا: "سامحني يا عم علي.. كنت أنفذ في الأوامر".
أراد أن يقبل يديه فاحتضنه وقال له: "ما كنتش تحتاج باش تجي يا ولدي أنا سامحتك أنت وصحابك من زمان والحمد لله اللي رفع عنا الغمة جميعا نحنا وانتم".
الوالدة أيضا لم يكن ردها مختلفا بل أضافت: "كل ما كنت نتمنى انو ربي يكرمني برجوع ولادي قبل ما نموت ربي كريم وان شاء الله يغفرلنا ويغفرلكم".
بهذه الكلمات البسيطة لخص الوالد والوالدة رحمهما الله كل ما يختزنه التونسي من سماحة واعتدال ومروءة ليست غريبة عن تراث شعبنا وثقافته إذ تجسدت بالكامل في الثورة التي خلت خاصة في الأيام الاولى وفي ظل غياب شبه كلي لأجهزة الدولة من أي عملية انتقام أو تنكيل.
كثيرا ما أوصى الوالد قبل وفاته بأن لا نتقدم بمطالب تعويض كما رفضت الوالدة قبل وفاتها بأسبوعين فقط وقد أعلمها أحد أشقائي بتركيز الهيئة المكلفة بالعدالة الانتقالية، رفضت أن تتقدم بشكوى قائلة: "مانا سامحنا" .
أحيانا أتساءل: ماذا لو سارت الطبقة السياسية بمختلف أطيافها على هذا المنهج؛ الاعتذار من المسؤولين والعفو من الضحايا على أن تتولى الدولة إعادة الاعتبار لهم والتعويض على ما أصابهم؟
الذي حصل أننا عوض التحلي بروح التسامح والوحدة والمصالحة الوطنية انخرطنا جميعا في معارك سياسية حادة بدون حدود في أجواء تخلو من القوانين الضابطة ومن المؤسسات المحكمة. وفي ظل هذا الصراع عادت الأحقاد والضغائن وعجزت الحكومات المتتالية ليس فقط عن إعادة المظالم التي ارتكبت في العهود السابقة بل راكمت مظالم أخرى فاحتل مكان اللاجئين الذين أعادتهم الثورة لاجئين تونسيين جددا مشردين في مختلف الأقطار، وبقيت قوائم الممنوعين من السفر والمحرومين من جوازات سفرهم وتفرقت عائلات بين الداخل والخارج.. لسنا نتحدث عن الذين أجرموا وثبت إجرامهم بالقضاء وحتى هؤلاء أحوج ما يكونون إلى العفو والتسامح ولكن خاصة للعائلات وللموظفين الذين طبقوا الاوامر في مسائل لا تتعلق بالدماء والأعراض ومنهم كبار موظفي الدولة الذين مرت خمس سنوات الآن وهم يترددون على المحاكم ومكاتب التحقيق في إهانة لقطاع واسع من الكفاءات وفي ظل تضامن صامت وواسع لدى زملائهم يترجم امتناعا عن أي اجتهاد.
أجواء من المرارة والشعور بالظلم تنتشر وتتوسع في بلادنا.. قائمة المظلومين تزداد طولا يوما بعد يوم وصفوفهم تنقص إذ كل يوم يموت منهم من القدامى والجدد في سجن الفقر والحاجة والمرض لمظاليم العهود السابقة أو في سجن الغربة والزنزانات للجدد.. لا العدالة تحققت ولا الحقوق استرجعت.
يستغل الإرهاب هذه الأجواء فينمو ويتغذى بالشباب المعطل والغاضب تزحف الفوضى وخطر الاحتراب الأهلي يوما بعد يوم في ظل عجز كبير عن النهوض سببه أن التونسي لم يعد يطمئن للتونسي وأن الخطأ في بلادنا لم يعد بشريا كما قرر ربنا سبحانه.. في ظل الصراع والتحارب أصبحت الأخطاء خطايا وأصيبت الإدارة والوزارة بالشلل خوفا من هذا الخلط العجيب بين الخطأ والإكراه والجريمة.
العدالة الانتقالية أصبحت مجالا للمزايدة.. قانون المصالحة أصبح مجالا للمزايدة.. كل القيم الجميلة التوافق العفو التسامح المصالحة أصابها التشوه وتصدى أقوام لمنع رحمة الله أن تتنزل على هذه البلاد.. "لا يرحموا لا يخلوا رحمة ربي تنزل".
كلنا يذكر قولة الرسول الخالدة عند فتح مكة: اذهبوا فأنتم الطلقاء.. ولكن لا أحد يجرؤ على تنزيلها في هذا البلد الطيب.
وكلنا يمجد منديلا ولكن لا أحد يريد أن يعرف أن منديلا استدعى سجانه لحضور حفل تنصيبه وأنه من أطلق شعارات "تحرير الظالم" و"تحرير السجان".
لا يعني العفو أبدا النسيان فذاكرة الشعوب يجب أن تبقى حية والجرائم لا تمحى والدولة يجب أن تقوم بواجبها حتى لا تتكرر المأساة ولكن المطلوب هو أن يجلس الجميع ويتوافقوا على اتخاذ إجراءات تزيل المرارة من بلادنا: عدالة بسرعة واحدة.. اعتراف لضحايا مختلف العصور.. اعتذار .. إعادة اعتبار .. تعويض لمن يستحقه.. وعفو عام لمظالم ما قبل 2011 وما بعدها.
تونس كما هي عطشى للحرية وها هي ترتوي منها.. هي عطشى للعدل وما زالت عطشى هي عطشى للمصالحة الوطنية الشاملة التي كانت شعارنا قبل الثورة وقد كنا في موقع الضحية فلماذا اختفت اليوم؟؟
هذه دعوة لرئيس الجمهورية ولرئيس الحكومة وللبرلمان وللشيخ راشد الغنوشي ولبقية كبار البلاد أن يعملوا على إقامة العدل، ومبدأ ذلك تصفية تركة الماضي وإعلان العفو العام ولكن هذه المرة العفو الوطني العام.
توفي أبي السيد علي زيتون في 13 يناير 2013 بعد معاناة طويلة أدت إلى بتر رجله وتوفيت أمي السيدة صالحة عزوز يوم 28 أغسطس 2014، ومنهما تعلمت هذا الدرس في العفو واليوم أقول لأبناء وطني: يجب أن نرتفع على الأحقاد.