تؤشر الاعياد والاحتفالات والممناسبات التي تحييها الشعوب وطريقة الاحتفال الى المنسوب الحضاري الذي بلغته تلك الشعوب والى مستوى تنوع وثراء هويتها الوطنية وفي احيان اخرى تكون الاحتفالات حمالة لدلالات تاريخية وتعبيرا عن ارادة شعبية في النهوض والتطور والتحدي ..
هذا الى ما تحققه هذه الاحتفالات خاصة ذات الطابع الديني او المرتبط بالرموز الدينية من فوائد اجتماعية من خلال تكثيف التواصل الاسري والتكافل المجتمعي وتخفيف الاحتقان ووطأة الازمات السياسية والاجتماعية او فوائد اقتصادية من خلال ارتفاع مؤشر الاستهلاك العائلي الذي يعتبر احد المحركات الكبرى لاي اقتصاد..
المولد النبوي هو احدى هذه المناسبات التي تحقق كل هذه المعاني رغم انه ليس من الاعياد الرسمية للمسلمين الا ان غلبة حب الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم اضافة الى ملابسات تاريخية جعلت بعض الشعوب ومنها شعبنا تولي هذه المناسبة مكانة تكاد توازي العيدين الرسميين لأمة الاسلام..
وفي بلادنا يحتل المولد مكانة كبيرة اذ يكاد يكون المناسبة الدينية الوحيدة التي تحرص الدولة واركانها على احيائها في طقوس ومراسم معلومة .. كما يحتفي التونسيون بالمناسبة من خلال احتفال شعبي يقام في الجامع الاعظم تتلى همزية البصيري في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ويعدون عصيدة الزقوقو وهي نوع من الحلويات في منتهى اللذة وتعقد طريقة اعداده مع نفاسة الفواكه التي تزين بها هذه الاكلة بما يكشف المستوى الحضاري الذي بلغه هذا الشعب.
ولذلك قصة يرويها المؤرخ المصلح ابن ابي الضياف في اتحاف اهل الزمان اذ يقول:
وفي ربيع الاول من سنة 1257 (ماي 1841) احتفل -المشير احمد باي- بالمولد الشريف النبوي لما طبع عليه من عظيم المحبة في المصطفى وآل بيته.
وكان يوم المولد بحاضرتنا كمواسم السنة غير العيدين ويزين باجتماع الصبيان في المكاتب مفروشة يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم. فاقتضى نظره ان شأن المولد يجب له من السرور والفخامة ما لا يجب لغيره وامر بتنوير سائر المآذن بالحاضرة ليلة المولد وليلتين بعده والزيت من عنده لا من احباس الجوامع.
وفي ضحى يوم المولد يجتمع العلماء والاعيان بالجامع الاعظم ويأتي الباي من دار المملكة ببطحاء القصبة راجلا على أبهة وفخامة ملكية وامامه سماطان من امراء العسكر بلباس المواكب يشق بهم سماطين من العسكر واقفين على أهبة نظامية من باب الدار الى باب الجامع ويدخل من باب العطارين حتى ينتهي الى المحراب فيجلس حذو امام الجامع وكان يومئذ الشيخ ابراهيم الرياحي فيستفتح بقراءة تأليف للشيخ اختصره من تأليف سيدي مصطفى البكري، وذكر أن الداعي لذلك هو الباي أحمد المشير ذكر فيه فضائل المولد وما وقع فيه من الارهاصات عند ولادته ورضاعه والنسب الشريف وغير ذلك مما يقتضيه الحال.
هذا كله ومجامر الطيب فائحة وانوار الشموع والشجرة المباركة لائحة ولما ينتهي الى الابيات المعروفة لبعض الصالحين وهي:
قليل في حق المصطفى الخط بالذهب على ورق من خط احسن من كتب
وان تنهض الأشراف عند سماعه. قياما صفوفا أو جثيا على الركب
أما الله تعظيما له كتب اسمه. على عرشه يا رتبة سمت الرتب
فقم أيها الراجي لنيل سعادة قيام محب صادق الحب والادب
ففي الذكر لاسم الحب إحضار ذاته. بقلب له في الحب وجد له لهب
ورب جليل عظم الناس ذكره. فكيف وهذا سيد العجم والعرب
عليه صلاة الله ثم سلامه. يكونان للرضوان من اعظم السبب
ولما يصل الامام الى قوله "فقم ايها الراجي" البيت ، ينهض الباي قائما ويقوم كل من في الجامع وتقع الاشارة من المئذنة الى القصبة فيترنم المدفع ويسترسل من الابراج ويكمل الامام الابيات قائما وكذلك الناس. ثم يجلس للدعاء ويختمه بالفاتحة. ثم يؤتى بماء السكر لسائر من في الجامع.
ثم مياه الطيب وينفض الموكب فيرجع الباي بموكبه وفخامته الى الدار ويأذن بتسريح العسكر ثم يركب الى باردو. ويدوم ترنم المدفع صباحا ومساء ايام المولد الثلاثة. ويفيض فيه العطاء والصدقات للقراء الذين يحيون تلك الليلة بالقرآن العظيم والأمداح النبوية وغيرهم ويطعم الفقراء في تلك الايام.
ومن الاتفاق ان كان مولده هذه السنة موافقا لمولده صلى الله عليه وسلم بالحساب الشمسي وهو العشرون من نيسان.
وجرى به عمل من بعده من الملوك لعصرنا هذا..
وقد قلت له حين شرع في هذا الترتيب : "المناسب ان تخرج من باردو راكبا وعندنا بحمد لله من العسكر ما يكفي للوقوف بين باردو والجامع " فقال لي: " ذلك يفعله السلطان العثماني وليس لنا ان نفعل مثله فالمناسب الادب معه " ثم قلت له:" وهل ترى ان نحبس على هذه المأثرة شيئا؟" فقال لي: "نحبس عليها ملك تونس، ويستحيل ان من يقوم مقامي يتركها ويرضى لنفسه نسبة الاستخفاف بالمولد النبوي".
وبعد ذلك كاتب رئيس مجلس الشريعة بالقيروان أبا عبد الله محمد الصدام ان يفعل بالجامع الاكبر مثل عمل جامع الزيتونة وكاتب العامل يعطيه الزيت والدراهم.
وكان يبيت ليلة المولد بالحاضرة في داره بالقصبة ويصلي العشاء بالجامع الأعظم ثم يخرج راجلا بلا سلاح للدوران في البلاد وأسواقها كعامة الناس يزاحمهم ويزاحمونه فاذا وقف له أحد او تأدب أنكر عليه ذلك ويقول لمن حاذاه: "انا في هذه الليلة كواحد من سكان الحاضرة وهو على بشاشة واسلوب يجذب بجاذبه القلوب ....
وابواب المدينة ليلة مبيته بالحاضرة مفتوحة واسباب السرور والهناء ممنوحة..