أحدهم يطالب بطرد من أصولهم تعود لمناطق محددة في الغرب الليبي، طردهم من بنغازي، وآخر يدعو إلى تحديد ملكيتهم للأراضي، ومنعهم من تولي مهام أو مناصب حيوية في المدينة، وآخرون يرسلون رسائل الكراهية والبغضاء بهتافات بغيضة، وتتوالى مشاهد العداوة بين أبناء الوطن الواحد وأبطال المشاهد المحزنة، ليسوا من أعيان القوم أو عقلائهم في بنغازي، لنشهد تبلور خطاب طرابلسي في اتجاهه للتصعيد المكافئ والموقف المناوئ، لا يزال أكثر نضجا وأكثر حذرا.
لكن النضج لن يطول والحذر لن يستمر وربما سنشهد ردودا بنفس الدرجة من الكره وعلى نفس الوتيرة من البغضاء، ولن تكون أيضا من الأعيان والعقلاء، والحقيقة أن ردود الفعل الآنية على ما يصدر من بنغازي كان أغلبها عقلاني وفي مستوى المسؤولية لكني أتخوف أن لا يدوم ذلك.
محل استغرابي واستنكاري هو غياب صوت العقلاء أو خفوته، فقد تركوا الساحة للتراشق ومراكمة الكره والعداء لمن لا تقدير للعواقب عنده، والعقلاء بلا شك يسمعون ويرون ولكنهم لا يحركون ساكنا. وبعض من توسمنا فيهم الحكمة خذلونا بتورطهم في مواقف مشابهة، بل إن منهم من أسس لهذا الحراك العدواني.
ناقشت أحد أهل الاهتمام بالمصالحة وفض النزاعات عن دور الكهول والشيوخ في مجال اهتمامه، فأثنى عليه، لكنه عقب بأن المشاهد لديه أن إنجازات مهمة تحققت على أيدي شباب صغار، وذكر لي بعض التطورات المهمة في اتجاه المصالحة التي رعاها شباب في العشرينيات، فقلت لربما يرتفع صوت الوطنيين من الشباب على صوت السفهاء منهم الذين لا يتحرجون في المجاهرة بالعداوة والبغضاء، لربما يكون لهم حراكا يقهر الحراك الانفصالي ويعزل خطاب الكراهية.
وأعود فأكرر، إني لأعجز عن أن أفهم فرح البعض وطربه بمشاهد مصورة تعبر عن هذا التطور الخطير، ومنها هتافات شباب في بنغازي بحماس "طرابلس نكرهوك"، وأعجب من مرور مثل هذه الظواهر الخطيرة، وكأنه لم يقع شيء مخيف؟!
هناك من يرى أن ما وقع محدود الدائرة ومحدود الأثر، أي يتورط فيه عدد محدود من المغالين والمتشددين جهويا، فقلت إن ما يقلقني أكثر أن يصمت الحكماء والمثقفون والمبرزون سياسيا واجتماعيا وثقافيا عن ذلك، فهل هو القبول الضمني بهذا الخطاب، أو هو الحيرة والعجزة التي تخلق موقفا سلبيا وتدفع بصاحبها إلى الزوايا غير المرئية من المشهد، أم هو الخوف أن يتهموا بولائهم لـ"الآخر" المكروه؟!
الموقف العلني الرافض لهذا النوع من القول والممارسة من عقلاء القوم وأعيانهم يرسل للطرف الثاني رسائل واضحة، منها أن من تورط فيما وقع لا يمثلون بنغازي، ولا يعبرون عن أهلها، وأن الخلاف السياسي عندهم محصور في دوائره الضيقة، ولا يمكن أن يتحول لكره العاصمة وأهلها.
طالعت حملة يقودها شباب تحت شعار "سامحني"، يبتغون بها إصلاح ذات البين، وتغليب القيم العليا في التعامل بين المتخاصمين والمتنازعين، وإحياء معنى الغفران والصفح، تنطلق من العاصمة والعديد من المدن، وبرعاية شباب لا علاقة لهم بالسياسة، ولا يحبون الخوض فيها، إنما هالهم ما آل إليه المجتمع من تمزق، وما أنتهى إليه من قطيعة فقرروا أن يبادروا بنشر القيم الفاضلة لعل الخطاب يجد صدى لدى النُّوَم فيفيقون، والغافلين فينتبهون.
وأختم مقالي بعتب على بعض القنوات التي نقلت ما وقع كما هو وبصورته القبيحة، ففي ذلك تأزيم يمكن تفاديه وتهييج لا مصلحة من ورائه، والأولى نقل المقطع المصور ثم يُعقَّب عليه بخطاب عقلاني يضع الحادثة في حجمها الطبيعي، ويساعد على احتواء الموقف، ولا يتجه به إلى تصعيد يضر ولا ينفع.