روت دواوين السنة النبوية قصة الصحابي حاطب بن أبي بلتعة، حينما كتب كتابا إلى أهل مكة يخبرهم بنية الرسول عليه الصلاة والسلام غزو مكة، وهو ما أغاظ بعض الصحابة منه حتى قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق.
وبحسب رواية الصحيحين، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام حينما سأل حاطب عن فعله ذاك، قال: "يا رسول الله: لا تعجل علي، إني كنت امرءا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي..".
ودافع حاطب عن نفسه قائلا: "وما فعلته كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله: لقد صدقكم". وبعد أن استأذن عمر بقتله، قال عليه الصلاة والسلام: "إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وقد اختلف العلماء في عقوبة
الجاسوس، بناء على فهمهم لهذه الواقعة واستنباطهم لعقوبة الجاسوس منها، فمنهم من رأى
قتله كما هو مذهب الحنابلة وأقوال في مذاهب أخرى، ومنهم من قال بتعزيره كالأحناف ورأي للشافعية، وثمة رأي يذهب أصحابه إلى الحكم بردته إذا اقترن بمحبة الكفار، طبقا لأستاذ الفقه وأصوله في جامعة الزرقاء الأردنية، عبد المجيد دية.
وأوضح دية أن التجسس على المسلمين، وكشف أسرارهم وعوراتهم جريمة عظيمة وكبيرة، خاصة في زماننا الذي تُدار فيه المعارك إلكترونيا، لذا فإنه يميل إلى الأخذ بعقوبة قتل الجواسيس لردعهم وإرعاب الآخرين من الإقدام على هذا الفعل الشنيع.
وبين دية لـ"
عربي21" أن الفقهاء متفقون على أن عقوبة الجاسوس ليست حدا ثابتا كبقية الحدود الأخرى، وبناء عليه فقد وقع الاختلاف بينهم في تحديد العقوبة بين القتل والتعزير، وقد يصل التعزير إلى حد القتل إن رأى ولي الأمر ذلك.
وتوضيحا لرأي القائلين بردة الجاسوس، بين دية أن من أهل العلم - كابن تيمية وابن القيم، ومن المعاصرين ابن باز - من ذهب إلى هذا الرأي، مستدلين بآيات الولاء والبراء، لكن ثمة من رأى أن ردة الجاسوس لا تتحقق إلا حين اقترانها بمحبة الكفار وتعظيمهم.
في السياق ذاته، قال أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في الجامعة الأردنية، الدكتور عارف حسونة إن التأصيل الفقهي لهذه المسألة واضح عند الفقهاء تمام الوضوح، فهو يدور بين التعزير بالقتل والتعزير بما دونه، فليس هو حدا ثابتا، ولذلك عفا الرسول عن حاطب، ولو كان حدا لما عفا عنه أبدا، فيجوز للإمام أن يستخدم أي عقوبة زاجرة أخرى إن رأى المصلحة في ذلك.
وأوضح حسونة أن ثمة خلافا بين الفقهاء في جواز التعزير بالقتل، فمن الفقهاء من يمنع التعزير بالقتل مطلقا، ومنهم من يجيزه في الجرائم الخطيرة كالاتجار بالمخدرات والتجسس لصالح
العدو، والخيانة العظمى، مرجحا جواز التعزير بالقتل لقوله عليه الصلاة والسلام "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" فالرسول أرشد إلى تعزيره بالقتل، ما يدل على جواز فعله.
ولفت حسونة في حديثه لـ"
عربي21" أنه بالرغم من وضوح المسألة في جانبها الفقهي، إلا أن ثمة محاذير شديدة، ومخاطر عظيمة في إنزال هذه الأحكام على الواقع، وهو ما يتطلب المزيد من التحوط والتدقيق وضرورة تولي القضاء البت في هذ الوقائع.
لكن حسونة استدرك قائلا: "قد يضطر المجاهدون في بعض الأحوال إلى تنفيذ قتل الجواسيس ميدانيا وبشكل عاجل، في حالة انكشاف أمرهم ساعة المعركة، واحتدام القتال، ما يتطلب التخلص منهم على وجه السرعة، فهذا أمر شرعي مطلوب فعله في هذه الحالة".
وجوابا عن جواز قيام جماعة إسلامية في حال سيطرتها على مناطق جغرافية معينة بتطبيق الأحكام الشرعية، ومنها قتل الجواسيس في حالة تحقق ثبوتها عليهم، أجاب حسونة بأن من العلماء من أجاز ذلك بشروطه المعتبرة شرعا.
وأبدى حسونه تحرجه الشديد من إنزال هذه الأحكام على الوقائع، لأنه قد يصار إلى توظيفها واستغلالها لأغراض سياسية في غمرة الصراعات المحتدمة هنا وهناك، وهو ما يتطلب المزيد من الحذر والورع والتحقق في حالة تطبيق تلك الأحكام وإنزالها بعيدا عن أي مصالح دنيوية وأغراض سياسية.
من جانبه وبرؤية تحليلية تنحو منحى الحفر في أعماق ظاهرة التجسس وخلفياتها قال الكاتب والباحث الفلسطيني، أحمد أبو ارتيمة إن "ظاهرة الوقوع في وحل العمالة معقدة ولها أبعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية ونفسية كثيرة، لذلك فإن من الخلل الكبير الاقتصار على التعامل الأمني في مواجهتها ومعالجتها".
وتابع أبو ارتيمة لـ(
عربي21): "فالعميل في بعض الأحيان يكون ضحية لظروف معقدة، وليس مجرد مجرم"، مشددا على أن كلامه هذا ليس تبريرا ودفاعا عن هذا الفعل الإجرامي الشنيع، بل هو محاولة لفهم خلفيات الظاهرة وتفسير أسبابها وعوامل تكونها.
وبحكم معايشته للحالة الفلسطينية في قطاع غزة، فقد بيّن أبو ارتيمة أن الأمن الإسرائيلي كثيرا ما يستغل حاجات الفلسطينيين الضرورية مثل حاجتهم للسفر أو العلاج، فيضغط عليهم ويبتزهم، أو حاجة الشباب الملحة للمال في ظل البطالة والفقر، أو وقوع الشباب في مشكلة عائلية، فهذه وغيرها مداخل يدرسها الأمن الإسرائيلي جيدا، ويتخذ منها مفاتيح للوصول إلى نفسية الضحية لإيقاعه في براثن العمالة.
لكن كيف يمكن مواجهة حالات التجسس، ومحاصرتها والتقليل من انتشارها؟
يتطلب الأمر (وفقا لأبو ارتيمة) "وضع خطة وقائية لتشجيع المستهدفين من الشباب وغيرهم الذين قد يتعرضون لوسائل الابتزاز للعودة إلى أحضان شعبهم، وأن الوقوع في وحل العمالة جريمة عظيمة قد يقع فيها الإنسان في لحظة ضعف"، ما يعني ضرورة فتح باب التوبة، وتحذير كل من يسقط في براثنها من العواقب الوخيمة حال الاستمرار في طريق الخيانة والعمالة والتي قد تفضي إلى قتله.