بصورة متزامنة، خرجت في الأسابيع الأخيرة عدة تقارير
فلسطينية محلية وعربية ودولية، تتحدث عن انتشار وتفشٍ غير مسبوقين للفساد في مؤسسات ووزارات
السلطة الفلسطينية.
فقد كشف تقرير لمنظمة
الشفافية الدولية، صدر أوائل شهر أيار/ مايو الحالي، أن 61 في المئة من المواطنين الفلسطينيين يرون أن
الفساد ازداد انتشارا خلال السنة الماضية، بجانب دول عربية أخرى.
وأصدر الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان" أواخر نيسان/ أبريل الماضي؛ تقريره السنوي عن واقع الفساد في السلطة الفلسطينية، جاء فيه أن هناك انتكاسة في شفافية المعلومات المتعلقة بالموازنة العامة للسلطة واعتمادها، مع توقف وزارة المالية عن إعداد ونشر الموازنة، وظهور صراعات جديدة على الصلاحيات بين الوزارات العاملة، كما أشار التقرير إلى أن هناك تشتتا في مرجعيات القطاعات الاقتصادية الحيوية، ما أضعف عملية الرقابة والمساءلة.
وفي أواخر آذار/ مارس الماضي، أحدثت "وثائق بنما" ضجة كبيرة في الأراضي الفلسطينية، حيث كشفت الوثائق النقاب عن تورط طارق محمود عباس، نجل الرئيس الفلسطيني، ووزير الاقتصاد السابق محمد مصطفى، بقضايا تهرب ضريبي وشبهات غسيل الأموال.
وتعليقا على هذه التقارير، قال يحيى موسى، رئيس لجنة الرقابة في المجلس التشريعي الفلسطيني، لـ"عربي21"، إن "ما ينشر بين حين وآخر عن قضايا الفساد في السلطة الفلسطينية ليس جديدا على الشعب الفلسطيني، لأن الرأي العام الفلسطيني يعلم أن المنظومة التي تقوم عليها السلطة الفلسطينية مليئة بالفساد الإداري والمالي منذ تأسيسها".
واعتبر موسى أن "الرئيس الفلسطيني محمود عباس منتهي الصلاحية منذ عام 2009، يقوم بأدوار منذ ذلك التاريخ خدمة لأهداف الاحتلال والتنسيق الأمني، ومن ضمنها تعطيل المجلس التشريعي لعلمه المسبق بتأثير ذلك على مكانته السياسية، والتغطية على قضايا الفساد التي تحدث تحت سمعه وبصره"، وفق قوله.
وتنوعت مظاهر الفساد التي برزت في السلطة الفلسطينية، بين شغل الوظائف العليا بناء على العلاقات الشخصية على حساب الكفاءة والمهنية، مرورا بجرائم فساد الأغذية التي تزايدت بشكل مستمر بسبب عدم نجاعة إعداد الملفات وعدم فعالية العقوبات، وازدياد جريمة الواسطة والمحسوبية والمحاباة والرشوة الصغيرة للحصول على تصاريح السفر والعبور أو العلاج في الخارج، وانتهاء بإساءة الائتمان واستثمار الوظيفة العامة والاختلاس التي كانت أكثر القضايا التي تعاملت معها النيابة العامة.
ويقول مجدي أبو زيد، الرئيس التنفيذي للائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، لـ"عربي21": "لا بد من تشكيل لجنة تحقيق رسمية بما يشاع عن قضايا الفساد، تتكون من هيئة مكافحة الفساد وسلطة النقد، لمتابعة حسابات من تورط بهذه القضايا".
وتابع أبو زيد: "أصدرنا تقريرا يلخص مدى التقدم في معالجة ملفات الفساد في الساحة الفلسطينية، من خلال مكاتبنا المنتشرة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وخلصنا إلى أن معدلات التقدم في مكافحة الفساد لا ترقى للمعايير المطلوبة، وهو ما يستدعي تفعيل قانون الذمم المالية لكبار المسؤولين والوزراء والمدراء العاملين في الجهاز الحكومي الفلسطيني، ليكون بمنزلة شهادة حسن وسلوك عن فترة أعمالهم"، بحسب تعبيره.
ويُعتبر القطاع الأمني في السلطة الفلسطينية المثال الأبرز لغياب الرقابة والمساءلة المالية، خاصة أنه يستأثر بالنصيب الأكبر من موظفي السلطة الفلسطينية البالغ عددهم 165 ألف موظف، وبنسبة 44 في المئة من إجمالي الموظفين. ويستحوذ هذا القطاع على 35 في المئة من الميزانية السنوية للسلطة الفلسطينية، بما يفوق المخصص لقطاعات حيوية أخرى، كالتعليم (16 في المئة)، والصحة (9 في المئة)، والزراعة (1 في المئة).
ويلفت الدكتور نصر عبد الكريم، أستاذ الاقتصاد بجامعة بيرزيت، إلى أن "الفساد في الأراضي الفلسطينية يكلف خزينة السلطة 300 مليون دولار سنويا، وهو رقم كبير بالنظر لحجم الاقتصاد الفلسطيني الذي يعاني العديد من المشكلات، ويعتمد أساسا على المساعدات الخارجية".
وقال عبد الكريم لـ"عربي21": "يمكن اعتبار الفساد في الأراضي الفلسطينية ظاهرة خطيرة نظرا لحجم الانطباع العام لدى العديد من المواطنين عن مؤسسات السلطة، علما بأن أهم أسباب انتشار الفساد في فلسطين يعود "لتركيز السلطة الفلسطينية على العلاقات الخارجية وإهمال الوضع الداخلي، ما زاد من حجم الفجوة بين الواقع وتطلعات المواطنين لتحسين مستوى معيشتهم"، وفق تقديره.
واطلعت "عربي21" على كشوفات رواتب بعض كبار الموظفين في السلطة الفلسطينية، من وزراء ووكلاء ومدراء عامين، حيث يظهر أن بعض هؤلاء يتقاضى راتبا شهريا يفوق عشرة آلاف دولار، إضافة لامتيازات أخرى، في حين يتقاضى ثلثا موظفي القطاع العام في الأراضي الفلسطينية بين 515 و640 دولارا شهريا.
من جهتها، تقول هدى نعيم، عضو لجنة حقوق الإنسان في المجلس التشريعي الفلسطيني، التي سبق أن تابعت عددا من قضايا الفساد في القطاع الحكومي الفلسطيني: "ما ينشر في الوثائق والتقارير الدولية والمحلية، يكشف النقاب عما كان مستورا في خبايا الفساد داخل مؤسسات السلطة الفلسطينية".
ورأت هدى نعيم، في حديث لـ"عربي21"، أن عباس "يتحمل جزءا كبيرا من هذا بسبب تعطيله للمجلس التشريعي، ما يتطلب البدء بخطوات جريئة على الصعيد المحلي لإعادة هيكلة صندوق الاستثمار الفلسطيني، وفي حال انعقاد المجلس بعد اكتمال نصابه، فإن أول الملفات التي ستوضع على طاولة النقاش والمحاسبة، هي شبهات الفساد التي تم الكشف عنها"، وفق قولها.
وتشير استطلاعات الرأي العام في الأراضي الفلسطينية إلى أن 79 في المئة يعتقدون بوجود فساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية، وفق آخر استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، لشهر نيسان/ أبريل.
وأبلغ مسؤول دولي يعمل في إحدى المؤسسات المانحة، "عربي21"، مشترطا عدم ذكر اسمه، أن "المؤسسات المانحة، بما فيها الدول والحكومات، تعلم بوجود فساد ورشاوى واستغلال نفوذ في مؤسسات السلطة الفلسطينية، لكننا لا نستطيع وقف دعمها أو تمويلها؛ لأن لهذا الدعم أهدافا سياسية بالدرجة الأولى، تتعلق باستمرار مسيرة السلام مع إسرائيل، ونعلم أنه في حال شددنا من إجراءاتنا الرقابية على السلطة، فلن نستطيع كبح جماحها نحو الفساد"، بحسب تعبير المصدر.