هل كان يخطر في أسوا كوابيس ذلك الشاب
المصري الذي أنزل علم دولة الاحتلال عن سفارة تل أبيب في القاهرة، في أغسطس 2011، أن "رئيس" مصر سيقف مستجديا
الإسرائيليين الاستماع لرسائله حول أهمية السلام، وراجيا منهم أن يبثوها على إذاعاتهم المحلية؟
وهل كان يتوقع أحد من أولئك الشباب "الينايريين" الذين حاصروا السفارة؛ احتجاجا على قتل شرطة مصريين في سيناء في ذلك الوقت، أن نظام بلدهم سيبني استراتيجية بقائه بعد سنوات من هذه الحادثة على الرضى الإسرائيلي، وبأي ثمن؟
وهل كان سياسيو وجنرالات تل أبيب يحلمون بكل هذا الدفء والتودد في علاقتهم مع مصر، بعد سنوات قليلة من حجيج وزراء خارجية العرب وتركيا ورئيس وزراء مصر إلى قطاع غزة؛ ردا على العدوان الإسرائيلي على القطاع في العام 2012، مستفيدين من قوة الزخم الذي أفرزته الثورات العربية، ووصول رئيس منتخب للحكم في مصر، يخطب في أحد جوامع القاهرة، مهددا إسرائيل بعدم السكوت على اعتداءاتها؟
لم تكن هذه الرسائل الدافئة من رئيس النظام المصري لإسرائيل ممكنة بالطبع لو لم تنتصر الثورة المضادة في مصر وغيرها من الدول العربية، ولم يكن لأي رئيس منتخب بشكل حقيقي في أي دولة عربية -مهما كانت أيدولوجيته- أن يتحدث بمثل هذه اللغة؛ لأن عموم الجماهير العربية لا تزال بوصلتها تتجه إلى فلسطين. ولكن الحال تغير بعد أن تراجع صوت الجماهير، وعادت سطوة الأنظمة القمعية.
ومن المثير أن تصريحات
السيسي ورسائله إلى الإسرائيليين جاءت دون مناسبة، وفي احتفال لشأن محلي بحت، ما يدل على أنها أقحمت بشكل فج إلى نص الخطاب، في تمهيد على ما يبدو لترتيبات دولية وإقليمية معينة تتعلق بالملف الفلسطيني، وفي محاولة واضحة من السيسي للاستفادة من هذه الترتيبات؛ لتثبيت حكمه، والتخلص من تداعيات الأزمات التي تعصف بنظامه.
يشعر السيسي أنه في أزمة كبيرة على جميع الصعد، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، فالاقتصاد المصري يتهاوى، والجنيه يخسر بشكل غير مسبوق، والمشاريع "الكبرى" التي أعلنها النظام تفشل الواحد تلو الآخر، والمعسكر الذي جمعه الاتفاق على الانقلاب وعداء الإخوان تفكك إلى حد كبير، والإعلام بدأ يتجرأ أكثر فأكثر على انتقاد السيسي وحكمه، والنظام وضع نفسه في مأزق كبير بعد التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، والأنباء تتزايد عن خلافات وصراعات بين أجهزة "الدولة"، والأوضاع المعيشية تزادا بؤسا في ظل وقف الدعم المالي المباشر من ممولي الانقلاب الخليجيين.
وفي ظل هذه الأزمات، يعيد السيسي تركيزه على الاستراتيجية التي بنى عليها "شرعيته" الدولية منذ الانقلاب، وهي الدخول إلى ملعب الرضا والدعم الأمريكي والغربي من بوابة "الغزل" لإسرائيل، ولذلك فهو يحاول من خلال هذه الرسائل الدافئة والخطاب الاستجدائي أن يعيد تقديم "أوراق اعتماده" لدولة الاحتلال، في محاولة لتثبيت أركان حكمه، الذي بات يشعر الكثيرون أنه يهتز بصورة غير مسبوقة.
لقد حدد السيسي في رسائله للإسرائيليين موقفه بوضوح شديد، وأكد أنه يقف على مسافة واحدة بينهم وبين الفلسطينيين، وخاطب الطرفين، وكأنه رئيس لدولة إسكندنافية، وليس رئيسا للشقيقة الكبرى لفلسطين وغيرها من الدول العربية، وعبر عن اعتزازه بالثقة والطمأنينة التي تسود علاقته مع دولة الاحتلال، في لغة لم يجرؤ أي نظام عربي أن يستخدمها في وصف العلاقة مع الإسرائيليين. صحيح أن نظام مبارك كان يرتبط بعلاقات وثيقة مع دولة الاحتلال، ولم يكتف بلعب دور الوسيط بينها وبين الفلسطينيين، بل مارس الضغط على ممثلي الشعب الفلسطيني في بعض الأحيان لصالح إسرائيل، كما حصل في مفاوضات وقف إطلاق النار بعد العدوان على غزة في كانون ثان 2009، ولكنه، أي نظام مبارك، كان يحرص على تسويق نفسه كنصير للفلسطينيين ومدافع عن قضيتهم، ولم يجرؤ في ذروة علاقاته الحميمة مع الاحتلال على استخدام اللغة التي استخدمها السيسي في خطابه الأخير.
لم يسبق لنظام مصري أن هنأ علنا دولة الاحتلال بنكبة فلسطين، ولم يمتلك أي نظام عربي الوقاحة لممارسة مثل هذا الخطاب المائع عن مأساة عام 1948 سوى نظام السيسي، فبعد أن هنأ وزير الخارجية سامح شكري تل أبيب "بذكرى الاستقلال"، يصف السيسي النكبة في خطابه بالقول إنها مناسبة يحتفل فيها البعض "بالاستقلال"، فيما يحتفل فيها آخرون بالهزائم. هكذا ببساطة!
مع أزماته المتلاحقة داخليا وخارجيا، لم يجد الجنرال السيسي من يكاتبه من حلفائه المحليين والإقليميين، فلجأ لمكاتبة ومخاطبة تل أبيب بلغة حميمية غير مسبوقة، في محاولة بائسة على ما يبدو لشراء الدعم الخارجي، فهل يستطيع الجنرال بهذه الرسائل الخروج "من متاهته"؟!
الإجابة على هذا السؤال رهينة بأداء المعسكر المعارض لنظام الانقلاب، إذ إن خروج السيسي من متاهته لا يعتمد فقط على قوته ودعم إسرائيل والغرب وبعض دول الإقليم له، بل على ضعف الأطراف المعارضة له، وتشتتها أيضا!