يعاني قطاع
غزة للعام العاشر على التوالي، من فرض حصار
اقتصادي مشدد من قبل الاحتلال الإسرائيلي والأطراف الإقليمية، وتمثلت آخر حلقاته بالحظر الإسرائيلي، منذ العشرين من نيسان/ أبريل الماضي، على إدخال عملة
الدولار الأمريكي والدينار الأردني إلى القطاع، وهو ما تسبب في أزمة كبيرة في السيولة النقدية.
وخلال إعداد هذا التقرير، تابعت "
عربي21" موقفا في أحد البنوك، تمثل بحصول موظف فلسطيني لدى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" على قرض بقيمة 10 آلاف دولار، لكن البنك أعطاه إياه بعملة الشيكل الإسرائيلي، ما أدى لحدوث مشادة عنيفة بينهما، أسفرت أخيرا عن اعتذار الموظف عن استلام قرضه بالشيكل الإسرائيلي؛ لأنه سيخسر قدرا كبيرا عند تحويلها إلى عملة الدولار خارج البنك.
من جانبه، يقول عبد العزيز حسين، لـ"
عربي21"، إنه يحصل على كفالة أيتام تأتيه من إحدى دول الخليج، وحين ذهب لاستلامها هذا الشهر أعطاه البنك إياها بالشيكل الإسرائيلي، لافتا إلى أنه طُلب منه التوقيع على استلامها بالدولار.
وتفرض إسرائيل منذ العام 2006 قيودا مشددة على تحويل
العملات الأجنبية إلى البنوك والمصارف في قطاع غزة، بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية، علما بأن بروتوكول باريس الاقتصادي الموقع بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل عام 1994، نص على اعتماد عملة الشيكل الإسرائيلي كإحدى العملات الرئيسية، إضافة للدولار الأمريكي والدينار الأردني، وحق البنوك الفلسطينية بأن تحصل على احتياجاتها في حالة حدوث نقص في العملات الأجنبية، وأن تقوم بشحن أو إرسال الفائض منها إلى البنوك الإسرائيلية.
ويقول نزار رامي، وهو أحد مُلاك مكاتب الصرافة بمدينة غزة، إن هناك أسبابا أدت لاختفاء عملة الدولار في قطاع غزة، ومنها "قيام مكاتب الصيرفة في القطاع بشراء الدولار من السوق بهدف رفع سعره مقابل العملات الأخرى، ما تسبب في زيادة سعره بين 4 و6 دولارات لكل فئة 100 دولار".
وأضاف: "رغم أن عملة الدولار كانت متوفرة بشكل جيد في القطاع، ولكن صدور القرار الإسرائيلي بحظر دخوله لأسواق غزة أدى لتخوف كبير من جانب مكاتب الصرافة والبنوك ورجال الأعمال، ما دفعهم لشراء كميات كبيرة منه بهدف التحوط، وطمعا في تحقيق أرباح كبيرة بعد ارتفاع سعره في السوق المحلية، دون وجود أجهزة للرقابة عليه من قبل سلطة النقد"، وفق الصراف نزار رامي لـ"
عربي21".
ويشير مسؤول الإعلام في الغرفة التجارية في غزة، ماهر الطباع، إلى أن "مواطني غزة يعانون على مدار سنوات
الحصار من تبعات أزمة السيولة النقدية، وتقلب أسعار صرف العملات بشكل يومي".
ويقول الطباع لـ"
عربي21": "التجار ورجال الأعمال بغزة يتأثرون سلبا بارتفاع وانخفاض أسعار العملات الأجنبية خاصة الدولار، لعدم وجود عملة فلسطينية للتداول، في ظل التلاعب المستمر في سعر الصرف، وافتقاد السوق المحلية الدائم لعملة الشيكل بشكل كاف، بسبب أن هناك تقصيرا كبيرا من قبل سلطة النقد في مراقبة سوق العملات في غزة، وافتقادها لدور فاعل ينظم العملية، ويفرض سعرا موحدا للصرف بعيدا عن احتكار وتلاعب التجار".
واعتبر الطباع أن على سلطة النقد في غزة أن "تصدر أوامرها للبنوك بضخ عملة الشيكل في السوق، وما لديها من عملات، وعدم حجبها".
وحاولت "
عربي21"، دون جدوى، الحصول على تعقيب رسمي من سلطة النقد الفلسطينية، التي أصدرت بيانا صحفيا أشارت فيه إلى "أن سبب شح عملة الدولار في قطاع غزة حاليا يعود لعدة عوامل أساسها الحصار الإسرائيلي المشدد، والتحكم في المعابر وما هو مسموح إدخاله من الجهات الإسرائيلية".
وقال البيان إن "معظم المؤسسات الدولية العاملة في غزة تدفع رواتب موظفيها بعملة الدولار، وكذلك يتم الدفع لمتضرري الحرب الإسرائيلية الأخيرة بذات العملة الأجنبية، (ما) رفع الطلب على هذه العملة بشكل كبير، بينما العرض مربوط بما يسمح بإدخاله وبفترات زمنية متفاوتة"، بحسب البيان.
وظاهرة نقص السيولة من العملات الثلاث المتداولة في غزة (الدولار والدينار والشيكل) تكرر حدوثها خلال السنوات الثماني الماضية، حيث يكون النقص تارة في عملة الشيكل، وتارة أخرى في عملتي الدولار والدينار.
وقد أثرت الأزمة الراهنة المتمثلة بنقص عملة الدولار؛ في مختلف الشرائح الاجتماعية المتعاملة بهذه العملة، فالموظفون الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار والتجار تكبدوا خسارة فروقات العملات، وكذلك الأمر بالنسبة للمواطنين الذين يتلقون حوالات من الخارج، فيما تضطر غالبية هذه الشرائح للقبول بسعر صرف الدولار لدى البنوك الذي يقل عن السعر لدى محلات الصرافة أو السوق السوداء.
ويوضح الخبير الاقتصادي الفلسطيني، الدكتور مازن العجلة، أن "قرار الاحتلال الإسرائيلي بمنع إدخال العملات لقطاع غزة، تسبب بشكل كبير في عجز السيولة النقدية، وباتت فئة الدولار مختفية تماما من السوق الفلسطيني".
وأوضح العجلة، في حديث لـ"
عربي21"، أن "الدولار من العملات الأساسية التي يتعامل بها المواطنون في القطاع بعد الشيكل الإسرائيلي، واختفاء الدولار من الأسواق والبنوك الرسمية ومكاتب الصرافة؛ تسبب بخلق أزمة كبيرة وخسائر مالية فادحة".
وقال إن الاحتلال الإسرائيلي يريد "فرض عقاب اقتصادي جديد لسكان قطاع غزة المحاصر لأكثر من 10 سنوات متتالية، والتسبب بتردي الأوضاع المعيشية التي يعاني منها سكان القطاع بشكل كبير، خاصة بعد توقف مشاريع الإعمار في القطاع بعد منع الاحتلال إدخال الإسمنت لغزة لأكثر من أسبوعين".
ويقول مسؤول رفيع المستوى في أحد البنوك الفلسطينية، رفض كشف هويته، لـ"
عربي21"، إن "أزمة نقص الدولار مرتبطة بتهريب كميات متزايدة من هذه العملة إلى مصر، كون الدولار مطلوب بشكل كبير في مصر بسبب ارتفاع قيمته بصورة غير مسبوقة، وهذا يتم عبر السوق السوداء، حيث تحقق لتجار العملة أرباحا فلكية، وليس هناك سقف زمني قريب لانتهاء هذه الأزمة المالية في غزة"، وفق قوله.
وفي ظل الأوضاع الحالية التي يشهدها قطاع غزة، من توقف المشاريع الاستثمارية وتردي الوضع الاقتصادي بسبب تحكم الجانب الإسرائيلي بواردات القطاع، وخصوصا مع اقتراب شهر رمضان المبارك، فإن توقعات تشير إلى أن هذا الصيف سيكون ساخنا على الكثير من المواطنين بسبب تردي أوضاعهم المعيشية.
فاستمرار أزمة نقص الدولار في غزة، في ظل الوضع الاقتصادي المتردي أصلا في القطاع، مع وقف توريد الإسمنت للقطاع، وما أعقبه من توقف للمشاريع الإعمارية والإنشائية، يثير تخوفات المواطنين والمستثمرين ورجال الأعمال، ويتسبب بخسائر مالية فادحة، خاصة وأن عملة الدولار تعد أساسا في التعاملات البنكية والمصرفية في السوق الفلسطينية.